شهد السودان خلال الأيام القليلة الماضية فصلاً مدمراً جديداً من فصول الحرب الأهلية الوحشية، حيث سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر من قبضة القوات المسلحة السودانية، بعد حصار دام 18 شهراً، مع معاناة شديدة القسوة لعشرات الآلاف من المدنيين في المدينة الواقعة بدارفور. وتسيطر قوات الدعم السريع الآن على جميع المراكز الحضرية الرئيسية في دارفور، وهو تطور مأساوي في الحرب الأهلية السودانية يُنذر بتقسيم البلاد.
انسحاب القوات المسلحة السودانية إلى "مكان أكثر أمانا" - حسبما جاء في بيانها- جعل قوات الدعم السريع تسيطر على مقر الفرقة السادسة للمشاة التابعة للقوات المسلحة السودانية منذ 26 أكتوبر 2025. أصبحت مدينة الفاشر وجميع عواصم ولايات دارفور الخمس تحت سيطرة قوات الدعم السريع حاليًا. الوضع على الأرض كارثي، مع وجود تقارير واسعة النطاق عن عمليات قتل جماعي، وعنف بدوافع عرقية، واعتداءات جنسية، وأزمة إنسانية حادة.
شهود عيان في دارفور
الأنباء الواردة حول تنفيذ مسلحي قوات الدعم السريع "مجزرة الفاشر" تأكدتُ منها عن طريق أصدقاء لي في دارفور كنت قد تعرفت عليهم بين 2004 و2009، وهي الفترة التي كنت أغطي فيها مناطق النزاع. أكدوا لي أن عناصر قوات الدعم السريع هاجموا وأعدموا مدنيين عشوائيًا وأن هناك آلاف من القتلى بمن فيهم مرضى وموظفون في مستشفى الولادة السعودي. وتعاني المدينة حاليًا من نقص حاد في الغذاء والمياه النظيفة وانهيار المرافق الصحية، حيث ظلت تحت حصار طويل الأمد.
سألت أصدقائي الذين نادرًا ما يستطيعون التواصل نظرًا لانقطاع الكهرباء والإنترنت: لماذا لا يحاولون الفرار؟. أجابوا أنه محفوف بالمخاطر ومن حاول ذلك تعرض للعنف والابتزاز والاغتصاب. وغالبية من فرّوا اتجهوا إلى بلدة "طويلة" القريبة، والمكتظة أصلاً بالنازحين. أهل دارفور الآن في أشد الحاجة إلى إستجابة دولية تعكس حجم الكارثة. لكنّ ما صدر حتى الآن لا يعكس أن الأزمة قد تنفرج قريبا. وأصبح الوضع الحالي يمثل خطرًا بالغًا على المدنيين المحاصرين المتبقين، مع استمرار انقطاع الاتصالات مما يُصعّب تحديد حجم ونطاق المأساة المتفاقمة.
تقارير مختبر ييل عن الأضرار
والسؤال الآن كيف لنا أن نعرف ما يجري على الأرض بدقة وموضوعية في هذه الحرب الأهلية التي لا يعرف العالم عنها إلا القليل؟ يعد مختبر ييل للأبحاث الإنسانية المصدر شبه الوحيد الذي يصدر تقارير منتظمة عن الوضع في الفاشر بعد تحليل صور الأقمار الصناعية. وهو مختبر أبحاث الصحة العامة الإنسانية التابع لجامعة ييل ومخصص لحماية صحة وأمن السكان المتضررين من الأزمات في جميع أنحاء العالم. أكدت تقارير صادرة عنه خلال الأيام الماضية أن مستوى العنف يُضاهي مستوى العنف الذي شهده أول 24 ساعة من الإبادة الجماعية في رواندا، واحدة من أبشع جرائم الحرب التي عرفتها إفريقيا في التاريخ المعاصر بدءًذا من 7 إبريل عام 1994.
باستثناء ذلك، لا يتواجد حاليا صحفيون دوليون على الأرض في دارفور، ولم تتمكن وكالات الأنباء من الوصول إلى سكان الفاشر، حيث أفادت نقابة الصحفيين السودانيين بقطع الاتصالات بسبب التعتيم الإعلامي. وهناك بعض الشهادات القليلة لناجين فروا إلى بلدة طويلة القريبة وتحدثوا عن جثث متناثرة على الأرض إلى جانب مركبات محترقة، وأن هناك عملية تطهير عرقي ممنهجة ومتعمدة لمجتمعات الفور والزغاوة والبرتي. وأشار البعض إلى إن عمليات التطهير تجري من منزل إلى منزل في جميع أنحاء المدينة، حيث جاب المسلحون المنازل مرتكبين سلسلة من أعمال العنف.
الدعم السريع وجرائم الإبادة الجماعية
لكن، من هي قوات الدعم السريع؟ وما هي جذور الحرب الأهلية في السودان؟ تشكّلت قوات الدعم السريع رسميًا عام 2013، من فلول ميليشيا الجنجويد، التي عيّنها الرئيس السوداني السابق عمر البشير لقمع تمرد قبلي في إقليم دارفور. وانتهت تلك العملية بإبادة جماعية لما يصل إلى 300 ألف شخص. وتجددت الحرب الأهلية بين قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية في إبريل 2023، وسرعان ما امتدّ الصراع إلى جميع أنحاء البلاد. وخلصت الأمم المتحدة وجهات أخرى منها الويات المتحدة إلى أن قوات الدعم السريع ارتكبت إبادة جماعية واغتصابًا جماعيًا ضد عرق المساليت ومجتمعات في دارفور. في أغسطس من ذلك العام، أُعلنت المجاعة في مخيم زمزم للنازحين جنوب الفاشر. وفي إبريل، قتلت قوات الدعم السريع ما يصل إلى 2000 شخص عندما استولت على المخيم، الذي كان يضم آنذاك 500 ألف شخص.
صمت المجتمع الدولي
ظل المجتمع الدولي صامتا ولم يستيقظ ويُركز بعض الشيء على السودان إلا في وقت سابق فقط من هذا العام عندما عُقد مؤتمر في لندن ضم 17 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، لمناقشة الصراع. وقد صدر عن المؤتمر بعض التعهدات الجديدة بالمساعدات لبناء توافق جديد حول سبل المضي قدمًا لتحقيق السلام. حدث خلال المؤتمر تبادل اتهامات بين طرفي الصراع الحكومة السودانية وقوات الدعم السريع، منها اتهامات بضلوع أطراف خارجية بتأليب الصراع. وحذرت الأمم المتحدة، التي تقف موقف المتفرج بلا حول ولا قوة، من "انتهاكات وفظائع ذات دوافع عرقية" كان المراقبون يُبلغون عنها منذ أشهر. لم تُؤخذ تحذيراتهم في الاعتبار، رغم أن الأمم المتحدة كانت قد اتهمت قوات الدعم السريع، بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف باسم "حميدتي"، بارتكاب مجازر جماعية في الجنينة، الواقعة غرب البلاد، عام 2023. لكن لم يتم اتخاذ اجراءات كفيلة بإيقاف هذه الفظائع. وقد مكّن سقوط الفاشر الآن قوات الدعم السريع من إكمال السيطرة على إقليم دارفور، وهي منطقة أصبحت مسرحًا لمجازر عرقية شبه متواصلة.
بات الآن واضحًا حجم الكارثة التي تغرق فيها السودان لتبدد حلم الاستقرار وليواجه 25 مليون سوداني من جديد انعدامًا حادًا في الأمن الغذائي، مع عودة شبح تقسيم البلاد مرة أخرى، بعد انفصال جنوب السودان في عام 2011. ومع ذلك، وفي غياب مفاوضات السلام، فإن حالة الحرب، تقود السودان إلى هذا المسار. ولا امكانية لمفاوضات حاليًا إلا بوقف فوري لإطلاق النار، وتأمين المدنيين، وفتح الممرات الإنسانية إلى جميع مناطق دارفور وكردفان، وضمان وصول الإغاثة دون عوائق. بعد ذلك، يمكن الدعوة إلى تحقيق دولي لمحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب والمجازر المرتكبة، وتقديم كل المسؤولين عنها إلى العدالة.












0 تعليق