تعد حرب غزة الأخيرة التي اندلعت في السابع من أكتوبر 2023 واحدة من أكثر الحروب تعقيدًا وتحولًا في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ليس فقط من حيث شراستها أو حجم الدمار الذي خلفته، بل لأنها مثلت نقطة فاصلة في طبيعة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، وكشفت عن خلل عميق في منظومة الردع الإسرائيلية، وعن تغيرات جوهرية في خريطة التوازنات الإقليمية والدولية. ما يميّز هذه الحرب عن سابقاتها أنها لم تكن مجرد جولة من الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع محاصر، بل كانت حربًا شاملة بدأت بهجوم نوعي غير مسبوق من جانب حماس تحت مسمى طوفان الأقصى، قابلته إسرائيل برد شامل أطلقت عليه حرب السيوف الحديدية، استمرت عامين، وخلفت نتائج إنسانية وسياسية واقتصادية هائلة.
الحروب السابقة على غزة مثل الرصاص المصبوب عام 2008 وعمود السحاب عام 2012 والجرف الصامد عام 2014 وحارس الأسوار عام 2021، كانت في معظمها ردود فعل إسرائيلية على إطلاق صواريخ أو عمليات محدودة، ولم تتجاوز فيها المعارك خطوط الحدود كثيرًا، أما هذه الحرب، فقد بدأت من قلب العمق الإسرائيلي في مشهد أربك الجيش والمخابرات اليهوددية، حين اخترق مقاتلو حماس الحواجز الأمنية المحصنة، وتمكنوا من السيطرة المؤقتة على مواقع ومستعمرات، وقتل وأسر مئات الإسرائيليين، بينهم جنود ومدنيون، في عملية قلبت الطاولة وأحرجت جميع الأطراف.
أهداف متباينة لجيش الاحتلال
على الجانب الإسرائيلي، كان هدف جيش الاحتلال في حرب السيوف الحديدية هو تدمير بنية حماس العسكرية وإنهاء حكمها في غزة، واستعادة الرهائن الذين أُسروا في السابع من أكتوبر، وإعادة فرض الردع العسكري الذي تآكل، بينما كانت أهداف حركة حماس متركزة على كسر الحصار المستمر منذ عام 2007، وإعادة لفت الأنظار الدولية إلى القضية الفلسطينية التي تراجعت في ظل أوضاع إقليمية جديدة، إضافة إلى فرض معادلة جديدة تربط القدس وغزة في معركة واحدة، وتأكيد أن الاحتلال لن يعيش في أمان بينما يعيش الفلسطينيون تحت القصف والحصار.
الفرق الجوهري بين حرب 2023 والحروب السابقة يكمن في طبيعة العمليات العسكرية وفي نتائجها السياسية، في السابق كانت المواجهات محدودة النطاق ومضبوطة بإيقاع تفاهمات التهدئة، أما هذه المرة فقد انكسرت كل الخطوط الحمراء، وتحولت غزة إلى ساحة دمار شامل، بينما واجهت إسرائيل أكبر أزمة داخلية في تاريخها الحديث، إذ اهتزت ثقة الإسرائيليين بمؤسساتهم الأمنية والسياسية، كما أن هذه الحرب لم تبق في حدود غزة فقط، بل امتدت ارتداداتها إلى الضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن وقطر والبحر الأحمر، وخلقت حالة من التوتر الإقليمي والدولي دفعت الولايات المتحدة ودول أوروبا إلى ممارسة ضغوط هائلة على إسرائيل لوقف إطلاق النار.
تراجعات تكتيكية فى 2005
أما خلفية الحديث عن انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005، فهو مختلف جذريًا عن تراجعاتها التكتيكية خلال الحرب الأخيرة، انسحاب عام 2005 جاء بقرار سياسي من حكومة أريئيل شارون، وكان الهدف منه التخلص من العبء الديموغرافي والأمني في القطاع، وإعادة رسم حدود السيطرة الإسرائيلية دون اتفاق مع الفلسطينيين، أراد شارون وقتها أن يحصن إسرائيل ديموغرافيًا ويخفف من الاحتكاك المباشر مع مليوني فلسطيني في مساحة صغيرة، لكنه أبقى القطاع تحت حصار خانق وتحكم شامل في منافذه وحدوده، لذلك لم يكن الانسحاب عام 2005 خطوة نحو السلام، بل إعادة تموضع لتكريس الاحتلال بصيغة مختلفة، أما التراجع الإسرائيلي إلى الخط الأصفر ضمن مراحل وقف حرب 2023 فكان ناتجًا عن ضغط ميداني وسياسي، وإعادة تموضع مؤقت للقوات بعد شهور من القتال داخل مناطق مكتظة، إلى جانب تأثير الضغوط الدولية والوساطات الإنسانية، خاصة فيما يتعلق بصفقات تبادل الأسرى وإدخال المساعدات.
لا يمكن تجاهل الدور المصري الذي ظل ثابتا عبر جميع المراحل، ففي عام 2005 تولت مصر التنسيق الأمني على معبر رفح وتنظيم اتفاق فيلادلفيا، محاولة الحفاظ على التوازن بين الأمن الإسرائيلي وحق الفلسطينيين في التنقل، أما في الحرب الأخيرة، فقد تحوّلت القاهرة إلى محور رئيسي في إدارة الأزمة، إذ كانت الوسيط الأساسي بين حماس وإسرائيل في كل جولات وقف إطلاق النار المؤقتة، ونسقت مع واشنطن والدوحة والأمم المتحدة لإدخال المساعدات الإنسانية وتبادل الأسرى. بهذا المعنى يمكن القول إن مصر كانت ولا تزال رمانة الميزان في هذا الصراع، لأنها الجهة الوحيدة التي تجمع بين الشرعية الإقليمية والعلاقات المتوازنة مع الطرفين، وتتحرك بدافع حماية الأمن القومي المصري والإقليمي على السواء.
الرئيس الأمريكي ومعادلة السلام
أما معادلة السلام التي رعاها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فهي من وجهة نظري حتى هذه اللحظة تعديل جديد يتطلب تعديلًا إضافيًا على ما عرف بصفقة القرن واتفاقات أبراهام، هذه المبادرات السابقة التي لم تنطلق من منطق الحل العادل للقضية الفلسطينية، بل من رغبة في إعادة ترتيب العلاقات العربية الإسرائيلية تحت غطاء التطبيع الاقتصادي والأمني، فقد اعتبرت الخطة أن التنمية يمكن أن تحل محل الحقوق السياسية، وأن الاعتراف بإسرائيل يمكن أن يسبق حل الصراع، هذه المعادلة التي كانت تهدف إلى عزل غزة سياسيًا وتحييد الضفة الغربية، ومنح إسرائيل تفوقًا إقليميًا في ظل قبول عربي تدريجي، إلا أن حرب غزة الأخيرة أسقطت تلك المعادلة عمليًا، وأعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الدولي، وأظهرت أن تجاوزها أو تهميشها لا يؤدي إلا إلى مزيد من الانفجار، وهو ما جعل ترامب شخصيًا يعدل على صفقة القرن ولكن أيضًا لايزال الغموض حول خطته الجديد فى إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وعند السؤال: من الذي انتصر ومن الذي انهزم؟ تبقى الإجابة نسبية، إسرائيل حققت إنجازًا عسكريًا بتدمير جزء كبير من البنية التحتية لحماس، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها السياسية المعلنة، فلم تنه حكم الحركة في غزة، وفقدت صورتها كقوة لا تقهر، أما حماس فقد تكبدت خسائر بشرية ومادية ضخمة، لكنها أيضا لم تحقق انتصارًا معنويًا وسياسيًا، وأن ما حدث في إعادة القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي كان على حساب دماء الشهداء الزكية، أما الشعب الفلسطيني فكان الخاسر الأكبر، إذ دفع الثمن الأكبر من الدماء والدمار والنزوح والمعاناة الإنسانية.
في النهاية، يمكن القول إن هذه الحرب لا تمثل نهاية الصراع بل فصلًا جديدًا منه، فالأسباب الجوهرية التي أشعلت الحروب السابقة لم تحل: الحصار قائم، الاحتلال مستمر، الاستيطان يتوسع، والأفق السياسي مسدود، ومع غياب تسوية عادلة وشاملة، فإن العودة إلى القتال تبقى احتمالًا قائمًا، لأن جذور النار ما زالت تحت الرماد، غير أن ما بعد حرب غزة الأخيرة لن يكون كما قبلها، فقد تغير الوعي الدولي والإقليمي، وتبدلت قواعد الاشتباك، وباتت مصر من جديد رمانة الميزان التي تملك مفاتيح التهدئة، وتتحرك بين دبلوماسية الحسم والعقلانية، ساعيًة إلى تثبيت معادلة جديدة تحفظ للمنطقة استقرارها وللقضية الفلسطينية حضورها الذي حاول البعض طمسه.












0 تعليق