في عرضه ضمن مهرجان الجونة السينمائي، قدّم المخرج محمد صيام فيلمه الجديد «كولونيا»، وهو عمل يغوص في أعماق النفس الإنسانية، ويختبر هشاشة العلاقات بين الآباء والأبناء حين تتقاطع الذاكرة مع الخيبة والحنين.
تدور الأحداث خلال ليلة واحدة، لكنها تحمل من الثقل ما يعادل عمرًا كاملًا من الندم واللوم والخذلان. أب وابنه الأصغر يجدان نفسيهما مجبرين على المواجهة، بعد أن ظلت بينهما مسافة من الجفاء والقطيعة. الابن، الذي ترك كلية الصيدلة عقب وفاة والدته، انجرف نحو طريق الإدمان والضياع، بينما يعيش الأب أسيرًا لصورة الابن الأكبر، النموذج الناجح الذي لا يخيب ظنه. ومن هنا تبدأ المأساة: أب يوبخ، وابن يصرخ، وكلاهما يحاول أن يسمع الآخر فلا يسمع إلا صدى صوته.
لغة الصورة
محمد صيام يختار أن يحبس شخصياته داخل فضاء ضيق، كأن المكان نفسه شريك في الصراع. الكاميرا تتحرك ببطء، وكأنها تلتقط أنفاس الشخصيات المتقطعة. الإضاءة المظلمة، التي تكاد تخنق الكادر، ليست مجرد خيار جمالي بل لغة تعبيرية عن العتمة الداخلية التي تبتلعهم.
إلا أن هذا الإصرار على الظلال والضوء الخافت أحيانًا يثقل المشاهدة بصريًا، فيفقد المتلقي توازنه بين التوتر والملل، خصوصًا مع قلة تنويع المواقع والمشاهد.
الأداء الإنساني
يقدّم أحمد مالك واحدًا من أكثر أدواره نضجًا وتماسكًا. يحمل في صوته ارتجاف الخوف والغضب معًا، وفي عينيه شهوة البكاء وكبرياء التمرد.
أما كامل الباشا، فبحضوره الصارم وصوته المتهدج، يجسد الأب المقهور داخل ذاته قبل أن يقهر ابنه. غير أن اللهجة المصرية ظلت تتسلل ثقيلة على لسانه، وهو ما انتزع في بعض اللحظات شيئًا من حرارة المشهد وصدقه الواقعي، رغم صدق الإحساس وعمق التعبير.
ووسط هذا الصدام الذكوري، تظهر مايان السيد لتمنح العمل لمسة توازن إنساني، بوجه يطلّ من بين الظلال كوميض رحمة قصيرة.
السيناريو واللغة
الفيلم يعتمد على دراما الحوار لا دراما الحدث. كل كلمة تحمل ثقل جرح قديم، وكل صمت يحمل ما هو أوجع من القول.
لكن السيناريو لم يسلم من بعض الانفلات اللغوي في ألفاظ وعبارات زائدة القسوة، مثل “شخرة الأب” أو قول الابن “هيطلع ميتين أمي”، وهي لحظات تكسر إيقاع الشعرية التي حاول النص أن يبنيها، وتجعل الواقعية تميل نحو الفجاجة أكثر من الضرورة الدرامية.
قراءة في المعنى
«كولونيا» ليس فيلمًا عن المخدرات أو العصيان الأبوي فحسب، بل عن الميراث النفسي الذي نحمله من آبائنا دون وعي، عن كيف يورثنا الغضب والخذلان، وكيف نصبح في النهاية نسخًا مشوهة ممن حاولنا الهروب منهم.
الفيلم، بعتمته وصدقه، يضعنا أمام سؤال قاسٍ: هل يمكن ترميم ما كسره الزمن؟ أم أن الوقت حين يمرّ، لا يترك خلفه إلا أطلالًا من الكلام غير المنطوق؟
الخلاصة
«كولونيا» عمل جريء، مفعم بالتوتر والإحساس، لكنه ليس سهلًا على المشاهد أو مطمئنًا له. إنه تجربة بصرية ونفسية تدعو إلى التأمل أكثر من الترفيه، وتعيد التأكيد على أن محمد صيام من الأصوات السينمائية التي تراهن على الصدق لا الإرضاء.
وربما هنا تكمن قوة الفيلم وضعفه في آنٍ واحد.

0 تعليق