د. غادة عبدالرحيم تكتب: «ديكستر».. حين يتحوّل البطل المظلم إلى نموذج قاتل

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مسلسل Dexter ليس مجرد عمل درامي عن الجريمة، بل تجربة نفسية غائرة تكشف طبقات معقدة من النفس الإنسانية. في عمق الحكاية يعيش ديكستر مورجان بين عالمين متناقضين، فهو في النهار محلل آثار دماء داخل مؤسسة العدالة، وفي الليل قاتل متسلسل يطبق عدالته الخاصة. تلك الازدواجية تجعل منه تجسيدًا دراميًا لما وصفه فرويد بصراع الـ"هو والأنا العليا"، حيث تتنازع الغرائز العدوانية والرغبة في الالتزام الأخلاقي داخل نفس واحدة. الطفولة الصادمة التي شهد فيها مقتل والدته شكلت جرحًا نفسيًا غائرًا دفعه إلى الانفصال الوجداني عن مشاعر التعاطف، كما لو أن الرعب الأول تجمد في وعيه وتحول إلى دافع عدواني دائم. الأب بالتبني، الشرطي هاري، لم يعالج المأساة بل أعاد تشكيلها ضمن “كود” أخلاقي زائف، جعل من القتل فعلًا منظمًا ومبررًا. هذه التربية المشوهة سمحت للهو بأن يجد طريقه عبر بوابة الأنا، مستخدمًا العقل لتبرير الغريزة.

من وجهة نظر التحليل السلوكي، ديكستر هو نتاج عملية تكييف طويلة المدى. كل جريمة ناجحة تقترن بشعور قوي بالارتياح، فيُعاد تعزيز السلوك ويترسخ في دائرة المكافأة العصبية. سكينر كان سيصف ذلك كتعلّم بالتعزيز الإيجابي، حيث يصبح القتل نفسه مصدرًا للطمأنينة، ومع الوقت يتعذر إيقاف الدائرة. دراسات في علم الأعصاب، مثل ما نُشر في Journal of Neuroscience عام 2017، أوضحت أن مشاهدة العنف أو ممارسته تنشّط المناطق المسؤولة عن الدوبامين بنفس الطريقة التي تُنشط بها المكافآت الطبيعية، ما يفسر كيف يتحول السلوك العدواني إلى عادة عصبية لا يمكن كبحها بسهولة. أما المدرسة الإنسانية فترى في ديكستر شخصًا يبحث عن معنى لوجوده وسط إحساس دائم بالاغتراب. إنه لا يقتل بدافع الكراهية بل بحثًا عن هوية تمنحه شعورًا بالانتماء. عندما يقتل، يشعر للحظة أنه يسيطر على العالم الذي لطالما رفضه. في فكر كارل روجرز، هو مثال على إنسان حُرم من القبول غير المشروط، فأنشأ لنفسه نظامًا بديلًا يمنحه وهم الاتزان النفسي.

 المدرسة المعرفية تقدم قراءة مختلفة لسلوك ديكستر. أفكاره الجوهرية المشوهة تدفعه إلى الاعتقاد بأن العدالة لا تتحقق إلا بالعنف، وأن القانون العاجز يبرر تدخله الشخصي. هذا النوع من الانحياز المعرفي يشبه ما وصفه ألبرت باندورا بآلية الانفصال الأخلاقي، حيث يُعاد تأطير الفعل العدواني كواجب أخلاقي أو تضحية ضرورية. وقد أثبتت أبحاث باندورا أن الأفراد الذين يتعرضون لنماذج سلوكية تبرر العنف يميلون إلى تقليدها، خاصة عندما تكون النماذج ذكية ومحبوبة. من هذا المنطلق، لا يمكن تجاهل أثر ديكستر على المراهقين. الدماغ المراهق لا يزال في طور النمو، والقشرة الجبهية المسؤولة عن اتخاذ القرار لم تكتمل بعد، في حين أن نظام المكافأة العصبي يعمل بطاقة عالية. مشاهدة شخصية تجمع بين الذكاء، السيطرة، والبطولة الأخلاقية المزيفة يمكن أن تعيد تشكيل مفهوم العدالة في أذهان الشباب. دراسات في جامعة ستانفورد عام 2019 بينت أن التعرّض المتكرر لأبطال رماديين يقلل النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالتعاطف ويزيد من تقبّل العنف المبرر، وهو ما يفسر انجذاب المراهقين لنماذج معقدة مثل ديكستر أو والتر وايت.

 هذا النوع من الدراما يعيد تشكيل الرموز الثقافية في الوعي الجمعي. البطل لم يعد ذاك الذي يواجه الشر دفاعًا عن الحق، بل من يمتلك الجرأة على كسر القواعد باسم العدالة. من منظور اجتماعي، يمثل ديكستر انعكاسًا لعصر يشعر فيه الإنسان بالعجز أمام المؤسسات والقوانين، فيبحث عن بطله الفردي الذي يثأر للنظام الأخلاقي المنهار. لكن الخطر الحقيقي يكمن في تحول هذه الرؤية من تأمل فني إلى قناعة نفسية، حيث يصبح “الانتقام المنظم” شكلًا من أشكال البطولة. الأبحاث في علم النفس الإعلامي تشير إلى أن الأعمال التي تمزج بين الجاذبية البصرية والتبرير الأخلاقي للعنف تخلق ما يُعرف بـ “التطبيع الإدراكي للعنف”، أي أن الدماغ يتعامل مع العدوانية كخيار طبيعي داخل السلوك الإنساني.

من الناحية الإكلينيكية، شخصية ديكستر تقترب من سمات اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، لكنها ليست نسخة نمطية منه. فهو يمتلك ضميرًا جزئيًا يطل من حين لآخر، وأزمة هوية مستمرة تضعه في مساحة رمادية بين الوعي بالذنب وإنكاره. هذه المساحة هي ما يجذب المشاهد نفسيًا؛ فالمتفرج لا يرى مجرمًا بل إنسانًا يحاول التعايش مع ظله الداخلي. دراسات في علم النفس التحليلي مثل أعمال يونغ عن “الظل” توضح أن الإنسان ينجذب إلى ما يُخفيه داخله، وأن مشاهدة شخصية تتصالح مع ظلامها تمنح الفرد نوعًا من الإشباع الرمزي، وكأنها تتيح له مواجهة ذاته المحرّمة من بعيد دون عقاب.

كل هذه العوامل تجعل من Dexter عملًا يتجاوز حدود الترفيه إلى مستوى التأثير النفسي غير المباشر، خصوصًا لدى المراهقين. فالعنف هنا لا يُعرض في صورته الوحشية، بل في هيئة فنٍّ منظم وشخصية ساحرة. ومع تكرار المشاهدة يتشكل لدى العقل الباطن تصور جديد للبطولة قائم على الذكاء والسيطرة لا على الرحمة أو المسؤولية. في زمن تتراجع فيه المرجعيات الأخلاقية لصالح المحتوى البصري، يصبح مثل هذا النموذج قابلًا للانتشار والاقتداء.

ورغم كل ذلك، لا يمكن تجاهل القيمة الفكرية للمسلسل في كشف التناقض الإنساني بين الحاجة إلى النظام والرغبة في كسره. إنه مرآة تعكس هشاشة الضمير البشري أمام غواية القوة، وتجعل المشاهد يتساءل عن حدود الخير والشر في ذاته. ربما تكمن عبقرية Dexter في أنه لا يقدم إجابة، بل يترك كل إنسان أمام ظله ليتأمل: هل يستطيع السيطرة عليه، أم سيستسلم لإغوائه إذا مُنح السلطة والفرصة؟ هكذا يصبح المسلسل ليس مجرد قصة قاتل، بل اختبارًا خفيًا لأعماقنا نحن.

73091e73da.jpg
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق