كانت البداية كحلم رقيق، خطواته محسوبة بحذر، وكلماته كالموسيقى التي تعزف على أوتار قلبها. لم تكن كلها مثالية، لكنه كان يعرف كيف يجعل اللحظات الجميلة تبدو ساحرة جدًا، وكأن العالم كله يتركهما وحيدين.
ومع كل ابتسامة، ومع كل تصرف لطيف، شعرت أن قلبها يستسلم أكثر، لكنها كانت لا تدري أن هذه البدايات الحلوة كانت مجرد مقدمة لاختبار صبرها وقوة شعورها. كما تقول ويندي تريول في كتابها:«Narcissism: Behind the Mask»: الابتسامة التي تفتح قلبك ليست علامة حب، بل فخ مُعدّ بعناية لجذبك إلى عالم من الوهم.
كانت تعيش هي الحلم الجميل كما تمنته فكانت كل كلمة كالشمعة في ظلام روحها، كل ابتسامة كخديعة ساحرة، وكل لمسة توهمها بالأمل في شيء لم يكن موجودًا. فراحت تفتح قلبها بلا قيود، غارقة في وهج زائف، قبل أن تدرك أن هذا الحلم لم يكن إلا فخًا متقنًا من الرقة والكلمات، رحلة في عالم من الخداع، حيث كل ما يلمع ليس ذهبًا، وكل وعد ينذر بالخذلان.
كان مخادعًا متلونًا، يستخدم المشاعر كسلاح، يلعب على أوتار العاطفة كما يعزف العازف البارع على آلته، يحوّل الحب إلى فخ. نسج أمامها صورة الرجل المثالي، صورة تضيء قلبها في ظلمة البحث عن الأمان، لتظن أن القدر أبتسم لها أخيرًا. فمنحت قلبها بلا تحفظ، لكن ما كان أمامها لم يكن سوى انعكاس لما يريدها هو أن تراه، واجهة لمدينة مهجورة خلفتها ندوب الماضي.
ومع مرور الأيام، بدأت تظهر التغيرات الصغيرة. أحيانًا كان رائعًا، ويفاجئها بلطفه واهتمامه، وكأنها في قمة الأمان. وفي أحيان أخرى، يتحول إلى شخص قاسٍ، صامت أو منتقد، لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. هذا الصعود والهبوط العاطفي الساخن والبارد أربكها، جعلها تشكك في أحكامها، تحاول فهم دوافعه، وتبحث عن مبررات لكل تصرف، حتى بدأت تشك في نفسها أكثر من أي وقت مضى.
كما يشير سام فيشر في كتابه «The Narcissist You Know»: التلاعب العاطفي للنرجسيين يتخذ شكل موجات من القرب والبعد، يجعل الشريك في حالة تشويش مستمرة، بحيث يصبح الاعتماد عليهم ضرورة للبقاء.
كانت تحاول تبرير تصرفاته لنفسها، ربما هو متعب، ربما مرّ بيوم صعب، كل هذه الأعذار كانت وسيلة للبقاء في العلاقة رغم شعورها بالارتباك الدائم. لكنها كانت تدري أن قلبها صار ملعبًا للتلاعب العاطفي، وأن كل موقف جديد قد يكون اختبارًا صامتًا لمدى تعلقها، ولقوة مقاومتها للتلاعب النفسي المستمر.
وكما تقول إلين بيد في كتابها «Disarming the Narcissist»: النرجسي يختبر حدودك، كل لطف أو اعتذار مخادع هو اختبار لصبرك وقدرتك على الغفران، بينما يظل قلبك مقيدًا بالأمل في التغيير.
لم تكن تدرك بعد أن وهج البدايات قد تهاوي كما يتلاشى ضوء الفجر البعيد، وبدأت الظلال تزحف على قلبها ببطء، تزرع في أعماقها شعورًا بالضياع، بين ما تراه وبين ما يُفرض عليها من واقع مشوه. كل محاولة للفهم كانت تصطدم بجدار الكذب والخداع، وكل خطوة نحو الابتعاد قوبلت بلطف جديد أو اعتذار مخادع، فوجدت نفسها تدور في دوامة لا نهاية لها، حيث أصبح الألم مألوفًا.
كان يتحرك في الظل، يختفي ويعود، يلتقط كل ضعف في قلبها ويستثمره، يحلق بخيالها بين السماء والأرض، ويزرع فيها شعورًا دائمًا بعدم الكفاية، كل كذبة وكل تحريف للحقيقة جعل قلبها يلوم نفسه ويشك في بصيرته. كل محاولة للوقوف على قدميها كانت اختبارًا، وكل قرار صغير تحوّل إلى حرب نفسية، بينما هو يتحكم بخيوط وهمه المظلم فيها بلا عناء.
ومع ذلك، كانت روحها أحيانًا مدمنة على الألم، وعودتها إليه مرات ومرات لم تكن مجرد ضعف، بل انعكاس لإدمان عاطفي على الوهم وخوف حقيقي من لوم المجتمع وعيون الآخرين وأحكامهم. كل تراجع في لحظة قرار كان متأثرةً بلحظة تذلل منه لاسترضائها، كان يقوي بها قيود هذه الدائرة المرضية، بينما الخوف من البعد والرجاء المستمر جعلاها تدور في فخ لا ينتهي، بين الانكسار والرغبة في النجاة، بين الألم والرجاء الزائف، وهو يستمد قوته من استسلامها.
كما تشرح جوان فرل في كتابها «Stop Caretaking the Borderline or Narcissist»: أكثر ما يسيطر على النرجسي هو خوفك من فقدانه، وهو يستغله باستمرار ليبقيك في الدائرة المرضية.
ولم يكتفِ بألمها الداخلي فقط، بل سعى لتوسيع دائرة السيطرة، شوه الحقائق أمام الآخرين، ألصق بها عيوبه وأحقاده، حوّر الواقع، وجعل كل من حولها يشك في رؤيتها. شعرت بالعزلة كأنها واقفة على حافة هاوية، بينما هو يبتسم خلف الستار، مطمئنًا لسلطته التي تتغذى على كل وهم يولده في نفوس من حولها.
هذا الصعود والهبوط لم يكن مجرد قسوة عابرة، بل درسًا مبكرًا في فهم طبيعة العلاقات، في تمييز الحب الحقيقي من التلاعب، وفي معرفة حدودها. كل ابتسامة كانت اختبارًا، وكل لحظة غضب كانت تحديًا، ومع مرور الوقت بدأت تستشعر أن النجاة تكمن في إدراك اللعبة قبل أن تغرق فيها بالكامل.
وكما يؤكد ستيفن كاريل في كتابه «Will I Ever Be Free of You»: الوعي بالنمط النرجسي هو أول خطوة نحو الحرية، إدراك اللعبة هو ما يفصل بين الوقوع في الفخ والتحرر، لكنها للأسف كانت قد وقعت في الفخ وغرقت فيه وكانت الحرية حلمًا بعيدًا، يلوح في الأفق بلا قدرة على الوصول.. يتبع.
0 تعليق