لم يكن خروج مصر من الظل العثماني حدثًا مفردًا بقدر ما كان انتقالًا سياسيًا انفجر مع الحرب العالمية الأولى، ثم استقر شكليًا بتصريح 28 فبراير 1922، وبين التاريخين (1914–1922) تتحدث كتب التاريخ المصري الحديث عن سنوات تحولت فيها مصر من احتلال إنجليزي مقنع إلى حماية معلنة، ثم إلى استقلال منقوص تحفظت عليه بريطانيا في ملفات جوهرية.
تجمع المراجع التي تؤرخ لبدايات الحماية على أن بريطانيا أنهت السيادة الاسمية العثمانية على مصر وأعلنتها محمية بريطانية في 18 ديسمبر 1914، في سياق دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا، واعتبار لندن أن بقاء الوضع القديم لم يعد مضمونًا.
النتيجة المباشرة كانت تغييرًا رمزيًا وسياسيًا بالغ الدلالة عزل الخديوي عباس حلمي الثاني (الذي كان خارج البلاد) والانتقال إلى لقب جديد للحاكم "سلطان مصر"، وهو ما مثل إعلانًا بأن مصر لم تعد حتى اسميًا ولاية/تابعًا عثمانيًا.
تصف بعض الدراسات القانونية والسياسية هذه النقلة بأنها انتقال من وضع ملتبس احتلال بريطاني قائم منذ 1882 دون ضم رسمي، إلى وضع قانوني أكثر صراحة: محمية تجعل القرار النهائي بيد المندوب السامي البريطاني وتقيد استقلال الحركة الخارجية.
وفي الوقت نفسه، تُظهر الكتابات التاريخية أن سنوات الحرب فرضت ضغوطًا يومية على المجتمع والاقتصاد، قيود، وأحكام عرفية، ومتطلبات لوجستية ضخمة للجيش البريطاني في مصر وجبهات الشرق.
من أهم ما تلفت إليه الدراسات الأكاديمية الحديثة عن تلك السنوات "قصة العمالة المعبأة، وكيف جرى تجنيد/تعبئة عمال وفلاحين من الريف المصري للعمل كقوة لوجستية في الحرب، عبر شبكات الإدارة المحلية.
وتشير مراجع أخرى إلى تشكيل ما عرف بـ"الفيلق/العمالة المصرية" خلال الحرب (1914–1918) كجزء من بنية الإسناد للقوات البريطانية، هذه التفاصيل تفسر لماذا ربطت كتب التاريخ السياسي بين سنوات الحرب وبين تصاعد الغضب الاجتماعي الذي انفجر لاحقًا في ثورة 1919.
كتاب الرافعي
في كتابه الشهير "ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921" يضع المؤرخ عبد الرحمن الرافعي سنوات الحماية داخل سردية واحدة "الحرب العالمية الأولى، والسياسة البريطانية، وتحول المسألة المصرية إلى قضية شعبية عارمة انتهت بالثورة".
واللافت أن عنوان الكتاب نفسه يحدد إطار القراءة بأن 1914 ليست مجرد سنة حرب، بل بداية "مرحلة سياسية كاملة" انتهت بحسب مسار الأحداث إلى لحظة تفاوض وصدام ونتائج دستورية لاحقة.
حين وصلت الأزمة إلى ذروتها، أصدرت بريطانيا تصريح 28 فبراير 1922 الذي أنهى رسميًا الحماية وأعلن مصر "دولة مستقلة ذات سيادة"، لكنه احتفظ لنفسه بحقوق حاسمة في أربع مسائل (تعرف في الأدبيات السياسية بـالتحفظات الأربع) وهى (تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر، الدفاع عن مصر ضد أي اعتداء أو تدخل خارجي، حماية المصالح الأجنبية والأقليات، السودان).
هذه البنود ليست تفصيلة هامشية، لأنها تفسر لماذا وصفت كتابات سياسية وتاريخية كثيرة استقلال 1922 بأنه منقوص أو شبه سيادي فالخارجية والدفاع وقناة الاتصال الإمبراطوري والسودان بقيت بيد لندن عمليًا.
ماذا تقول "الوثيقة" البريطانية نفسها؟
ميزة هذه اللحظة أن نصها موجود ومتاح في مصادر رسمية بريطانية، إذ تُثبت مناقشات البرلمان البريطاني ذكر الأمور الأربع المحفوظة بالنص، ما يجعلها شهادة مباشرة على طبيعة الاستقلال الممنوح.













0 تعليق