أسئلة معلقة في السماء: (2) هل الله في حاجة لخلق الملائكة؟ 

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الأسئلة العالقة في السماء، تتوه أحيانًا أبصار العقول قبل أبصار العباد، ليس كل سؤال يٌولد من شك، بل كثير منها يٌولد من رغبة الإنسان في الاقتراب من سرّ الوجود خطوة إضافية نحو الفهم، وكثير من هذه الأسئلة قد وصفتها بالمعلقة في السماء، لأنها تظل معلقة في وعي الإنسان بسبب غيابه عن إدراك حقيقة الرسالات السماوية والعمل بنداء السماء للأرض، فبينما وضّح الله كل شيء وتكلم عن كل شيء بآيات واضحة، فإن اختيارات الإنسان الخاطئة وميله إلى هواه - في صراعه في الدنيا - هي التي تجعله قد يؤوّل الحقائق أو يفسّرها بما يرضي نفسه، وكأنه يحاول الإفلات من الحقيقة المطلقة أو تقليل شأن قدرة الله الحقيقية.

إن الغموض لا يكمن في الله سبحانه وتعالى أو في رسالاته، بل في انفلات الإنسان - وخاصة إنسان العصر الحديث - من تطبيق ما أمر به الله، وفي ميله الدائم إلى أن يرى الكون بعيونه المحدودة بدل أن يعي النظم الإلهية التي لا يحيط بها بعلمه المحدود، وهكذا، تبقى الأسئلة معلقة، ليس لأن الله لم يوضحها، بل لأن الإنسان لم يتبنَ فهمًا صائبًا لكلام الله، ولم يستوعب أن الطاعة ثم الفهم الحقيقي للكون متلازمان مع إدراك كمال الخالق وعظمته.

 ومن بين تلك الأسئلة التي ظلّت تتردّد في أذهان الناس منذ فجر الوحي وحتى يومنا هذا: لماذا خلق الله الملائكة؟ وإذا كان الله سبحانه قادرًا على كل شيء بلا وسيط ولا معين، فلماذا أوكل إليهم أعمالًا قد يظنها البعض دلالة احتياج؟ ولماذا يُسبّحون الليل والنهار لا يفترون؟ أكان الله محتاجًا لعبادتهم؟

وهذا السؤال ليس مجرد تأمل فلسفي أو استفسار روحي، بل أصبح ذريعة يستخدمها بعض أهل الإلحاد لتشويه العقيدة، إذ يصورونها وكأنها تدعي أن الله محتاج إلى مخلوقاته لتنفيذ مشيئته، وأن الملائكة مجرد أدوات لإشباع نقص إلهي أو مدح نفسي، أوكأن العقيدة تقول إن الله عاجز عن إدارة الكون بنفسه. وهم بذلك يسقطون على الله صفات بشرية محدودة.

لكن الحقيقة أنّ الأمر أعمق مما يبدو على ظاهر السؤال؟

إن أول خطأ يقع فيه العقل حين يقترب من هذا السؤال هو أنه يُسقِط على الله تصوّراته البشرية، فالإنسان - بحكم نقصه - لا يفعل شيئًا إلا لحاجة، وكل مسيرته تتطابق مع نظرية الاحتياجات والاشباعات، فهو يحتاج للمديح ليشعر بقيمته، وللمعاون ليُتمّ عمله، وللحضور ليشهد جماله، فإذا سأل إنسان: لماذا خلق الله الملائكة؟ فهو غالبًا يقيس على نفسه: أخلقهم ليُسبّحوه لأنه يحتاج لذلك؟ أخلقهم ليقوموا له بما لا يستطيع القيام به؟ أخلقهم ليستعرض أمامهم هيبته؟ وكأن السؤال يضع الله - جلّ وتعالى - في مقام الملك الدنيوي الذي لا يستغني عمن يخدمه أو يصفّق له.

 وهنا تكمن بداية الانحراف العقلي!

فالقرآن يقطع الطريق من أول خطوة، كما جاء في قوله تعالى في [الزمر: ٧]: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾، هذه ليست آية أو جملة توبيخية، بل صياغة عقائدية محكمة، تؤكد أن الله غنيٌّ مطلق، وأن وجوده ليس زائدًا على ذاته، ولا يفتقر لشيء من خلقه، لا لعبادة ولا لطاعة ولا لتسبيح.

 والملائكة أنفسهم حين يسجدون ويسبّحون، فإنهم يفعلون ذلك لا لإشباع نقصٍ عند الله، بل لأن التسبيح طبيعتهم، كما يقول تعالى في [الأنبياء: ٢٠]: ﴿يُسَبِّحُونَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، فالتسبيح بالنسبة للملائكة ليس وظيفة… بل هو الحياة نفسها، كما أن الأكسجين مثلا ضروري وملزم لحياة للإنسان، وكما تُضيء الشمس لأنها نور، ويجري الماء لأنه سيّال، وتشتعل النار لأنها مٌحرِقة، وليست هذه "وظائف" لهذه العناصر، بل هي طبائع يختص بها كل مخلوق عن غيره، وكذلك الملائكة لها خصائصها الخِلقية.

ثم إن الله سبحانه حين يخلق الخلق، إنما يخلقه على سنن، وعلى نظام. فالله قادر أن يرزق بلا سبب، قادر أن يقبض الأرواح بلا ملك، قادر أن يوحي مباشرة بلا جبريل، لكن القدرة شيء، والاختيار الرباني لإقامة نظام كوني شيء آخر. فالكون - في الرؤية القرآنية - ليس فوضى، بل بناءٌ مُحكم، له ظاهره المادي وله باطنه الغيبي، فكما جعل الله فيزيائيات مثل قانون الجاذبية، حركة الأفلاك، تفاعلات المادة… جعل كذلك أسبابًا غيبية هي الملائكة، وحين قال تعالى في سورة [يس: ٨٢]: ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شيئا أَن يَقُولَ له كُن فَيَكُونُ﴾ لم يكن ينفي وجود الملائكة، بل ينفي أن الله يحتاج إليها وإلى أي مخلوق أو قوة أخرى لتحقيق إرادته الإلهية.

والفلاسفة المسلمون - من الغزالي إلى ابن رشد إلى ابن تيمية وغيرهم - اتفقوا على أصل جوهري، يتمثل في أن سؤال «لماذا يحتاج الله إلى الملائكة؟» مبنيٌّ على تصور خاطئ؛ لأن السؤال يفترض أن الملائكة (يسدّون نقصًا) عند الله، بينما الحقيقة أن وجودهم هو تجلّي إرادته، وأن الكون نظام متكامل تتوزع فيه الوظائف بإحكام، يظهر فيها الحكم الإلهي في كل مستوى من مستويات الوجود، في عالم المادة، عالم الغيب، عالم الروح، فليست وظيفتهم إكمال قدرة الله، بل تجلٍّ من تجلياتها، كما أن الله خلق النار، وجعل لها خاصية الإحراق، رغم قدرته أن يُحرق من غير نار، وخلق الأسباب، رغم قدرته أن يفعل بلا سبب، وخلق الشرائع، رغم قدرته أن يهدي بلا شرع، وسنّ السنن، رغم أنه ليس محكومًا بها بل خالقٌ لها.

والملائكة - في السنة النبوية - جزء من هذا النظام المقدّر، فالرسول ﷺ قال عن الملائكة التي تتعاقب على ابن آدم: «يَتَعَاقَبونَ فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار…» [متفق عليه]، ولو كان الله محتاجًا لمن يراقب خلقه، لما قال قبلها بآيات: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: ١٦]، فالقرب الإلهي لا ينفي وجود الملائكة، كما لا تنفي المعرفة الإلهية المسبقة بما تكتب الملائكة في صحف البشر بأمر الله، حيث يوكّل الله بكل إنسان ملكين أحدهما يكتب الحسنات والآخر يكتب السيئات، ويُسجّلان كل ما يفعله الإنسان ويقوله، وتُرفع هذه الصحف إلى الله، وتُنشر يوم القيامة ليُحاسَب الإنسان عليها، فالملائكة مظهرٌ من مظاهر التدبير، لا دليل عجز.

وتشغلني فكرة أخرى في خلق الملائكة، كعبرة للإنسان؛ فبالمقارنة بين وضعه ومكانته وبين الملائكة، يفهم الإنسان أن الله عظيم على ما خلق قبله، وأنه منح الإنسان حرية الاختيار دون غيره من المخلوقات، وهي ميزة لم تُعطَ للملائكة، فقد أمر الله الملائكة بالسجود لآدم عند خلقه، كما أخبرنا الله في سورة [البقرة: ٣٤]:﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ …﴾، ففهم الإنسان لهذه المقارنة يجعله يدرك أن مكانته عند الله لها خصوصية، لأنه الكائن الوحيد المختار بحرية الإرادة، مسؤول عن أفعاله، قادر على الاختيار بين الحق والباطل.

وما كان الإنسان ليُدرك قيمة مكانته عند الله وأنه ممنوحًا لحرية الاختيار لو لم يُطلع على حقيقة وجود مخلوقات أخرى لم يرها بعينه، ولم يعرف شكلها، ولا قوتها، ولا قدرتها، فكل ما يجهله الإنسان يثير فيه الخوف والريبة بطبيعته، فلو لم يعلّمه الله عن الملائكة ووصفهم في رسالاته وكتبه السماوية، لظن أن أي كائن آخر قد يكون أقدر أو أرفع منه، ولشعر بالعجز والارتباك أمام غيب لم يُكشف له، لكنه حين يعلم أن هذه المخلوقات طائعة لله، لا تعصي أوامره، وأنها تجسّد النظام والكمال الإلهي في طاعة مطلقة، يطمئن الإنسان ويقف على حقيقة عظيمة، وهي أن له مكانة كبيرة بفضل حريته في الاختيار ومسؤوليته عن أفعاله، وأن هذه الحرية ليست عبئًا فقط، بل تكريم عظيم يرفع مكانته، ويُمكّنه من تحقيق إرادة الله على الأرض، وتحمل مسؤوليته في أعمار الكون، مدركًا أنه أرفع من كل ما خلقه الله من نور لا يُرى، وأن الاختيار في هذه الحياة هو ما يحدد قيمته ومصيره.

وقد يسأل سائل: وما الحكمة إذن في خلقهم؟

 تأتي الإجابة من القرآن بطريقة أدق في قول الله تعالى كما جاء في سورة [المدثر: ٣١]: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾، فالملائكة جنود، والجنود في اللغة ليسوا مقاتلين فقط، بل كلّ من تتجلى بهم السلطة، أو يظهر بهم النظام، أو يقوم عليهم الهيكل. والجنود هنا ليسوا لإثبات قوة، بل لإظهار نظام، فالكون ليس مجرد مادة، بل منظومة أخلاقية وروحية، وهناك شرف الطاعة، ومرتبة السجود، ودرجات النورانية، ومقامات القرب، وليس كل الوجود ترابًا وصخورًا.

ولا يخفى على من يتأمل النظام الكوني من العلم الحديث أن الكون يتكون من طبقات وحقول، وأن أي خلل في بنية هذه الحقول يؤدي إلى انهيار النظام بأكمله، وبالمثل، فإن خلق الملائكة ووضعهم في نظام محكم يمثل طبقة غيبية في نسيج الكون، تكمل البنية التي لا تراها العين، لكنها ضرورية لاستمرارية الحياة والعدل والرحمة، وحقيقتها في علم الله، فالكون ليس مجرد كتل مادية، بل هو منظومة مترابطة، جسدية وروحية، ظاهرة وباطنة، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله في سورة [البقرة: ٣]: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾. 

إن إيمان الإنسان بالغيب هو المفتاح لفهم سرّ خلق الملائكة وعظمة النظام الإلهي، فحين يصدّق الإنسان بما لا تراه عيناه ولا تحسه حواسه، يتحرر من قيود الخوف والريبة التي يثيرها المجهول في قلبه، ويصبح قادرًا على إدراك أن الكون مبني على حكمة ومشيئة إلهية دقيقة، وأن الملائكة خلقوا للطاعة والتنظيم، لا لأن الله محتاج لهم. 

هذا الإيمان بالغيب يعلّم الإنسان أن قيمته ليست في القوة المادية أو ما يُرى، بل في حرية الاختيار ومسؤوليته عن أفعاله، وأن قدرته على فهم أوامر الله والعمل بها تجعله مسئولا في تدبير الكون على مستوى محدود لكن مؤثر، فالإنسان الذي يؤمن بالغيب لا يهرب من المسؤولية، ولا يظن أن ما لا يراه يقلل من مكانته، بل يدرك أن الملائكة الطائعة تطمئنه على نظام الكون، وتذكره بأن طاعته وحكمته في اختياراته تعكس منزلة عظيمة منحها الله له، وأن كل ما خُلق من نورٍ وروحٍ مهيأ لخدمة حكمة ربانية أوسع من إدراكه المحدود.

إن خلق الملائكة ليس سؤال «سبب»، بل سؤال «حكمة»، والله في القرآن لا يجيب دائمًا على الأسئلة بـ«لماذا؟»، بل بـكيف ينبغي أن تفهم؟، ولذا قال عن الخلق كله في سورة [المؤمنون: ١١٥]: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا﴾، ونفي العبث نفيٌ للباطل في الوجود كله، لا في الملائكة فقط.

في النهاية، ليس الخطر أن نسأل، بل أن نحمل السؤال بمعيارٍ خاطئ، فخلق الملائكة ليس دلالة حاجة، بل دلالة نظام؛ وهي ليست بديلًا عن قدرة الله، بل تجلٍّ من تجلياتها؛ وليست كائنات تُكمِل «نقصًا» - وحاشاه - بل كائنات تُظهِر كماله، ومن يعجز عن فهم البعد الروحي للكون يبقى سجين المادة، ويقرأ الوجود بعين واحدة، أما من يفتح عينه الثانية - عين الغيب - فسيرى أن خلق الملائكة ليس لغزًا… بل ضرورة جمالية وروحية لنظام الكون، وأن الإنسان أعطاه الله حرية الاختيار ومكانة فريدة بين المخلوقات، لتكون مسؤوليته على الأرض أكبر وأكثر إشراقًا من كل ما يراه ولا يراه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق