"الوحدة بلا تعدّد استبداد… والتعدّد بلا وحدة تفكّك"... هذه هي رسالة البابا للبنانيين

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
"الوحدة بلا تعدّد استبداد… والتعدّد بلا وحدة تفكّك". بهذه العبارة – الحكمة حدّد الحبر الأعظم قداسة البابا لاوون الرابع عشر عنوانًا عريضًا لزيارته للبنان، التي تبدأ يوم الأحد المقبل لثلاثة أيام ستكون محطة مفصلية بالنسبة إلى هذا البلد الصغير بحجمه والكبير بتطلعاته. فقبل أسبوع من هذه الزيارة خرج البابا لاوون الرابع عشر بعبارة تختصر مأزق هذا البلد كما لم تختصره أي خطبة أو رسالة سياسية في السنوات الأخيرة: "الوحدة من دون تعدّد هي استبداد، والتعدّد من دون وحدة هو تفكّك".

Advertisement

فهذه العبارة، في رأي أكثر من مرجع روحي، ليست مجرّد حكمة أخلاقية، بل إطار فكري يصلح لأن يكون خارطة طريق لبلد يواجه واحدة من أكثر لحظاته التاريخية تعقيدًا. هو تباين بين دولة لا تزال عاجزة، وقوى أمر واقع، ومكوّنات اجتماعية وسياسية تشعر بأنّها في سباق مع الزمن لحماية هويتها ووجودها ودورها. فهذه العبارة – الحكمة ستُشكّل العنوان العريض لمقاربات الحبر الأعظم في لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين.

فالبابا يأتي إلى لبنان لأنه يرى فيه رسالة هي ما تبقّى من الشرق المتعدّد، لكنه يأتي أيضًا لأنه يدرك أن هذا النموذج يتهاوى تحت ضربات تفكّك الدولة ومؤسساتها، وفائض القوى خارج الشرعية، والانقسامات العمودية بين الطوائف، والهجرة المسيحية المتزايدة، واستنزاف المجتمع نتيجة الحروب المحيطة والضغوط الاقتصادية. من هنا فإن هذه العبارة البابوية تركّز على جوهر الأزمة اللبنانية، إذ كيف للبنان أن يصمد إذا انهارت إحدى ركيزتيه: الوحدة والتعدّد؟ فحين يقول البابا إن الوحدة بلا تعدّد استبداد، فهو ينفي أي إمكانية لعودة "الحكم الواحد" أو "النهج الواحد" أو "السلاح الواحد" خارج الدولة. وحين يقول إن التعدّد بلا وحدة تفكّك، فهو يحذّر أيضاً من تحوّل الدولة إلى جزر مذهبية، وسياسية، وأمنية واقتصادية.
من هنا قد يسمع المسؤولون رسالة واضحة: لا خلاص للبنان إلا بدولة واحدة قوية، تحمي كل المكوّنات، لا تُلغى فيها أي جماعة، ولا تُترك فيها أي جماعة وحدها. يعرف الفاتيكان أن المسيحيين لعبوا على مرّ الأيام دورًا تاريخيًا في "ميزان الصيغة" حين قرروا برئاسة البطريرك الماروني الياس الحويك انشاء لبنان الكبير قبل مئة وخمس سنوات. لذلك فإنه من المتوقع أن يوجّه البابا إليهم نداءً صريحًا، وهو أنّ الانكفاء الداخلي، والصراع على الأحجام، والرهان على الخارج، كلها خيارات من شأنها أن تضعف قدرة المسيحيين على حماية التعدديّة اللبنانية. وهو سيقول لهم بكل وضوح وشفافية: "احموا الصيغة، فهي تحميكم."
ولا يُستبعد أن يحضر موضوع السلاح حتمًا في خطابات البابا، ولكن من دون مواجهة مباشرة. فالتعدّد الذي يتحدّث عنه لا يمكن أن يستقيم ما دام قرار الحرب والسلم خارج سلطة الدولة. لكن خطابه سيكون هادئًا. لا تصعيد، بل تذكير بأنّ التعايش يحتاج إلى مساواة في المخاوف كما في الحقوق، وإلى دولة واحدة، لا سلاحين ولا منطقين فيها. فهذه العبارة للبابا تؤكد أن التعدديّة ليست "ميزة مسيحية" بل ثروة إسلامية – مسيحية مشتركة، وأن وحدة الدولة ليست أداة للهيمنة، بل مظلة لحماية الجميع. من هنا قد يشكّل كلامه دعوة إلى إعادة بناء الثقة بين المكوّنات، بعيدًا عن الاصطفافات الإقليمية التي طالما خطفت القرار الوطني.

إنّ التوازن بين التعدّد والوحدة يقود تلقائيًا إلى السؤال التالي: هل يحتاج لبنان إلى عقد سياسي جديد أو إلى مؤتمر تأسيسي؟ قد لا يتبنّى البابا هذا الطرح حرفيًا، لكنه حتمًا سيدفع باتجاه تعزيز اللامركزية، وإصلاح النظام السياسي، وتحديث المؤسسات، وضمان الشراكة الفعلية، وتجديد الشرعية الشعبية عبر انتخابات تُعيد إنتاج السلطة، أي التوافق على صيغة تحمي التعدديّة من جهة، وتدعم وحدة الدولة من جهة أخرى.

 

يأتي البابا إلى لبنان في وقت تتصاعد فيه الاعتداءات الإسرائيلية، وتهتز فيه الحدود الجنوبية، وتتجه المنطقة إلى تسويات كبرى، ويغرق الداخل اللبناني في صراعات تفوق طاقته.
من هنا فإن عبارة البابا هي بمثابة جرس إنذار. فلبنان، في رأي الفاتيكان، قد ينجو إذا توازن، وقد يسقط إذا اختلّ ميزانه.

 

بطبيعة الحال، فإن البابا سيغادر لبنان من دون أن يحلّ أزماته، لكنّ رسالته ستكون واضحة للبنانيين: احموا وحدتكم كي تحموا تعدّدكم، واحموا تعدّدكم كي لا تهربوا من وحدتكم إلى التفكّك.
زيارة البابا ليست مناسبة احتفالية، بل لحظة مفصلية يمكن أن تُعيد إلى لبنان صورته التي يعرفها العالم: بلد واحد، أبناؤه متعدّو الآراء، ولكن غير متفكّكين.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق