في خضم التحولات الدراماتيكية في ميزان القوى الآسيوي، تفتح مجلة فورين بوليسي الأمريكية، واحدًا من أكثر الملفات حساسية في تاريخ اليابان الحديث: “هل تتجه طوكيو، ومعها سيول، إلى امتلاك سلاح نووي مستقل لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية”؟
المقال التحليلي الذي كتبه الدبلوماسي السنغافوري السابق بيلهاري كوسيكان للمجلة يؤكد أن السؤال لم يعد «إذا» كانت اليابان ستصبح قوة نووية، بل «متى». فالتغيرات العميقة في البيئة الاستراتيجية الإقليمية والدولية تدفع البلدين دفعًا نحو إعادة النظر في الاعتماد الكامل على «المظلة النووية الأميركية».
تراجع الهيمنة الأمريكية
وتقول فورين بوليسي إن تحول الصين وكوريا الشمالية إلى قوى نووية مكتملة القدرات، مع امتلاكهما قدرة «الضربة الثانية» القادرة على استهداف الأراضي الأمريكية مباشرة، أدى إلى تآكل فعلي في مصداقية الردع الأمريكي في شرق آسيا.
ويشير الكاتب إلى أن التحالفات التقليدية في آسيا لم تعد بالصلابة نفسها، خصوصًا مع توجه واشنطن إلى إعادة تعريف مصالحها بطريقة «أضيق وأكثر تداولية» في عهد الرئيس دونالد ترامب.
يضيف: لم تعد الولايات المتحدة ترى نفسها مضطرة «لتحمل أي عبء» للدفاع عن العالم، كما أعلن جون كينيدي قبل ستة عقود، بل باتت تعمل وفق معايير أكثر ذاتية وأكثر تركيزًا على الداخل.
مراجعة المبادئ النووية الثلاثة
وفي مقاله لـ«فورين بوليسي» يوضح كوسيكان أن رئيسة الوزراء اليابانية سناي تاكايتشي فتحت الباب رسميًا لأول مرة منذ عقود حين قالت إن حكومتها تدرس مراجعة سياسة «المبادئ النووية الثلاثة»: عدم الحيازة، وعدم الإنتاج، وعدم السماح بدخول الأسلحة النووية.
ويعتبر الكاتب أن «الحساسية النووية» لدى اليابانيين طبيعية باعتبارها الدولة الوحيدة التي تعرضت لقنبلة نووية، لكنها لم تعد كافية أمام الواقع الجديد، خصوصًا أن اليابان تمتلك بالفعل الأساس الصناعي والعلمي اللازم لإنتاج قنبلة نووية خلال فترة وجيزة.
الصواريخ الصينية تغير قواعد اللعبة
وتسلط المجلة الضوء على التطور الأخطر: نشر الصين لصواريخ JL-3 بعيدة المدى على غواصاتها الحديثة، ما يسمح لها بضرب الولايات المتحدة من المياه الإقليمية الصينية دون الحاجة لاختراق سلسلة الجزر الأولى التي تضم اليابان وتايوان والفلبين.
ويرى كوسيكان أن هذا التطور قد يجعل واشنطن أقل استعدادًا للمجازفة بالتصعيد النووي دفاعًا عن طوكيو أو سيول، متسائلًا:هل ستضحي الولايات المتحدة بـ لوس أنجلوس لإنقاذ طوكيو؟
كوريا الشمالية: قطار الردع النووي انطلق ولن يعود
وتنقل فورين بوليسي عن الكاتب قوله إن محاولة نزع سلاح كوريا الشمالية باتت «وهمًا استراتيجيًا»، مضيفًا :بيونج يانج ترى السلاح النووي مسألة بقاء، ولا توجد قوة كافية لإجبارها على التخلي عنه، ولا إغراء يستطيع إقناعها.
كما لفت إلى أن الصين، رغم انزعاجها من برنامج كوريا الشمالية، لن تضحي بنظام حليف على حدودها.
الخيارات أمام اليابان
وتؤكد المجلة أن أكثر ما يفتقده المشهد الياباني الآن هو نقاش وطني علني وصريح حول مستقبل الردع. فالتأجيل لم يعد رفاهية.
وحذر كوسيكان من أن الأخطر ليس نشوب حرب نووية، بل انزلاق اليابان ببطء إلى وضع «نصف السيادة» تحت ثقل الردع الصيني إذا تدهورت مصداقية المظلة الأميركية.
وتختم فورين بوليسي تحليلها بالتأكيد أن العالم مقبل على «عصر نووي ثانٍ» تتصدره القوى الإقليمية، وأن اليابان، رغم إرث هيروشيما وناجازاكي، قد تجد نفسها مضطرة إلى إعادة تعريف هويتها الاستراتيجية بالكامل.










0 تعليق