قراءة في إقرار مجلس الأمن للمشروع الأمريكي

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

شكّل إقرار مجلس الأمن الدولي بالمشروع الأمريكي المتعلق بغزة لحظة سياسية فارقة تعيد تشكيل مسار الصراع في المنطقة، بعدما صوّت المجلس بأغلبية 13 صوتًا وامتناع روسيا والصين، في خطوة تعكس تحوّلًا دوليًا لافتًا، وتمهّد لمرحلة جديدة تتسم بالتعقيد والالتباس.

مرور القرار دون استخدام حق الفيتو لا يبدو مجرد تفصيل تقني داخل أروقة الأمم المتحدة، بل مؤشر على توازنات عالمية تُعاد صياغتها، بينما يتعمق المشهد الفلسطيني تحت وطأة العدوان والتدمير والتهجير المستمر، في وقت تواصل فيه إسرائيل فرض وقائع سياسية وميدانية عبر التوسع الاستيطاني وضم أجزاء من الضفة الغربية.

 

ورغم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قدّم نفسه على أنه “عرّاب مجلس السلام”، إلا أن الواقع على الأرض يكشف قدرًا كبيرًا من التناقض. فالفلسطينيون يواجهون انهيارًا إنسانيًا غير مسبوق، وتتحول قضيتهم إلى ملف دائم التداول في المؤسسات الدولية دون حلول جذرية، بينما يستمر الاحتلال في فرض شروطه بالقوة.

 

ورغم افتقار القرار إلى مستوى العدالة المطلوب، إلا أنه يفتح مسارًا سياسيًا جديدًا يضع غزة أمام مرحلة انتقالية شديدة الحساسية تقوم على إشراف دولي مباشر، تجمع بين الوعود بإعادة الإعمار والمخاوف من الوصاية الدولية، وتهميش القوى الفلسطينية، وتعزيز الهيمنة الأمنية الإسرائيلية.

 

يشير القرار إلى إنشاء مجلس دولي للسلام يشرف على إعادة الإعمار، ويربط العملية بتهيئة الظروف لتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية. كما ينص على عودة المساعدات ضمن آلية محددة تضمن استخدامها لأغراض سلمية، ويفتح المجال لإنشاء كيانات دولية لإدارة الحكم الانتقالي، ما قد يضع غزة تحت وصاية جزئية مؤقتة.

 

ويتضمن القرار أيضًا تشكيل قوة استقرار دولية مؤقتة بتنسيق مع مصر وإسرائيل، وإنشاء صندوق دولي لإعادة الإعمار بإشراف البنك الدولي، ما يعكس توجهًا نحو منظومة انتقالية قد تمتد لسنوات، وتؤثر على شكل الحكم داخل غزة والمشهد الفلسطيني الأوسع.

 

ردود الفعل الفلسطينية كانت متباينة، حيث رحبت السلطة الوطنية بالقرار معتبرة أنه يثبّت وقف إطلاق النار، ويمهّد لعودة الحياة الطبيعية، وحماية المدنيين، واستئناف المسار السياسي القائم على حل الدولتين، وأكدت استعدادها لتحمل المسؤولية في القطاع. في المقابل، رفضت حركة حماس القرار بشكل قاطع، معتبرة أنه يفرض وصاية دولية ويفصل غزة عن باقي الجغرافيا، ويحوّل القوة الدولية إلى طرف في الصراع. كما رفضت حركة الجهاد الإسلامي القرار، بدعوى أنه يمنح شرعية للاحتلال ويستهدف المقاومة.

 

على الجانب الإسرائيلي، رحّبت الحكومة بالقرار باعتباره خطوة نحو “السلام والازدهار” وتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية، بينما كان رد فعل التيار اليميني المتطرف تصعيديًا وحادًا.

فقد أصدر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير تصريحات تحريضية قبل التصويت بساعات دعا فيها إلى اعتقال الرئيس محمود عباس إذا اعترفت الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، وذهب إلى حد التفاخر بتجهيز زنزانة خاصة له. وتعكس هذه التصريحات مدى تغلغل التيار الفاشي داخل الحكومة ورفضه لأي مسار سياسي حقيقي.

 

على الصعيد الدولي، ورغم انتقادات روسيا والصين للقرار ووصفهما له بأنه إشكالي ومحفوف بالمخاطر، امتنعتا عن استخدام الفيتو، ما سمح بمرور المشروع. ويثير هذا الموقف تساؤلات حول حسابات موسكو وبكين في التعامل مع الولايات المتحدة، وطبيعة التوازنات الجديدة داخل مجلس الأمن، ومدى رغبتهما في عدم عرقلة مسار تعتبرانه مسؤولية أمريكية مباشرة في هذه المرحلة.

تعكس منصات التواصل الاجتماعي اليوم انقسامًا واضحًا حول القرار، بين من يراه خطوة فعلية نحو وقف العنف، ومن يخشى أن يتحول إلى وصاية دولية تفرغ القضية الفلسطينية من جوهرها الوطني.

الغموض في التطبيق شكل محور الانتقادات الأساسية حول من سيشارك، وكيف ستُدار القوة، وما هي صلاحياتها. ويبرز التوازن الصعب في خطاب الناشطين، فبعضهم يرى أن القرار مفيد إذا أوقف نزيف الدم حتى ولو شابه قصور، بينما يعتبر آخرون أن الأخطاء الاستراتيجية قد تكون لها تبعات أشد من الفوائد. وتظل الفصائل الفلسطينية رافضة للعديد من جوانب القرار، خاصة ما يتعلق بالسيادة والإدارة، وهو ما يعكس القلق من تحول القرار إلى منصة لفرض ترتيبات لا تخدم الحكم الذاتي الكامل لغزة.

 

يمكن القول إن غزة تدخل مرحلة انتقالية جديدة تتسم بإدارة هجينة تشترك فيها الأمم المتحدة والولايات المتحدة ومصر وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، مع تراجع دور الفصائل، ولا سيما حماس.

 

ورغم الحديث عن تهيئة الظروف لإقامة الدولة الفلسطينية، فإن الطريق ما يزال طويلًا في ظل استمرار الاستيطان، وتصاعد التيار المتطرف داخل إسرائيل، وغياب التوافق الفلسطيني، وضعف التأثير العربي والدولي. وعلى الصعيد الأمني، يبقى خطر الانفجار قائمًا، إذ قد تواجه القوة الدولية مقاومة ميدانية مباشرة، ما قد يحولها إلى طرف في الصراع ويهدد استقرار المرحلة الانتقالية ويعرض جهود الإعمار للخطر.

يمثل اعتماد المشروع الأمريكي دون فيتو تحولًا كبيرًا، لكنه محفوف بالمخاطر، فهو يحمل احتمال الوصاية الدولية وتهميش المقاومة، وتعزيز النفوذ الأمني الإسرائيلي، واستمرار الانقسام الفلسطيني. ومع ذلك، في ظل الواقع الإنساني والسياسي القاسي، يبدو أن إطلاق مسار سياسي يوقف الكارثة ويمهّد لإعادة الإعمار هو الخيار الأقرب لتحقيق حل عادل وشامل، بشرط ألا يتحول إلى مجرد فصل جديد من إدارة الصراع دون حله.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق