تشير التطورات الأخيرة في العلاقات الأميركية–الإسرائيلية إلى أن رهان دونالد ترامب على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ينطوي على مخاطر سياسية وقانونية كبيره. فهذا الرهان لا يُعد مجرد خطوة محفوفة بالمخاطر، بل يمثل استمرارًا لنمط تاريخي من الأخطاء الأميركية في الشرق الأوسط. فقد راهنت إدارات أميركية متعاقبة على شخصيات فاقده المصداقيه ، أو انخرطت في سياسات تغيير الأنظمة (regime change)، فتحولت هذه المراهنات إلى كوارث سياسية وأمنية وإنسانية زادت من التوترات الإقليمية وأضعفت مؤسسات الدول وعمّقت الفوضى في مناطق استراتيجية. وفي هذا السياق، يبدو رهان ترامب على نتنياهو امتدادًا للمنطق ذاته، حيث تُقدَّم الاعتبارات قصيرة المدى على حساب استراتيجيات الأمن والاستقرار طويل الأجل.
فالدعم غير المسبوق الذي يقدمه ترامب لنتنياهو، بما في ذلك التدخل المباشر في القضايا القانونية الداخلية لإسرائيل، لم يأت نتيجة انسجام استراتيجي، بل كرد فعل على غياب بدائل إسرائيلية موثوقة. ففي غضون أشهر قليلة، دعا ترامب مرتين إلى إلغاء محاكمة نتنياهو وإسقاط تهم الفساد الموجهة إليه، متجاوزًا نص خطابه أمام الكنيست ليطالب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوج بالعفو عنه، ثم أرسل إليه خطابًا رسميًا يصف فيه محاكمته بأنها “سياسية وغير مبررة”. ويعكس هذا التدخل إصرار ترامب على دعم شخصية تواجه أزمات متعددة، ويكشف في الوقت نفسه طبيعة الرهان الخاطئ: رهان على زعيم متورط في قضايا فساد محلية، ومطلوب دوليًا بموجب مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية. ويجعل هذا الوضع أي خطة أميركية في المنطقة عرضة لانتكاسات خطيرة، كما يضع واشنطن وتل أبيب في موقف حافل بالمخاطر السياسية والقانونية والأخلاقية.
ولا تقتصر تداعيات هذا الرهان على البُعد القانوني والدولي، بل تمتد إلى التحالفات الإقليمية واستراتيجيات الاستقرار. فالعوامل السابقة تجعل توسيع نطاق اتفاقيات أبراهام أكثر صعوبة، إذ لن تكون الدول الإقليمية المرشحة للانضمام قادرة على المضي قدمًا في ظل استمرار وجود نتنياهو في السلطة. وتتعقد العقبة أكثر مع طبيعة الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تضم شخصيات متطرفة مثل بن غفير وسموتريتش، ما يجعلها أقل قبولًا لدى الشركاء الإقليميين، ويحول دون أي تعاون عملي لتوسيع الاتفاقيات، ويقوّض جهود الولايات المتحدة لتعزيز الاستقرار الإقليمي وبناء تحالفات موثوقة.
وعلى الرغم من تفهّم بعض دوافع ترامب في دعمه لنتنياهو، يظل الرهان محفوفًا بالمخاطر. فالمعارضة المناهضة لنتنياهو، رغم توسع شعبيتها بعد حرب غزة، لا تزال مشرذمة، ومن غير المتوقع أن تتمكن من تشكيل حكومة مستقرة في انتخابات 2026 أو في أي انتخابات طارئة قبل ذلك. وحتى إذا وصلت المعارضة إلى السلطة، فإن ضعف تماسكها يجعل تنفيذ أي خطة أميركية – بما فيها خطة ترامب الإقليمية – أمرًا مشكوكًا فيه. وهنا يبرز تناقض واضح: فنتنياهو يبدو من جهة الأكثر قدرة على التعاون مع ترامب، لكنه من جهة أخرى يواجه تحديات داخلية وخارجية جسيمة تشمل الانقسامات السياسية، والمخاطر القانونية والدبلوماسية، وتزايد عزلة إسرائيل على الساحة الدولية نتيجة إدانته ورفضه حل الدولتين.
وعلى الصعيد الأميركي الداخلي، يضع دعم ترامب لنتنياهو، رغم أهميته الرمزية لدى القاعدة اليمينية والإنجيلية، الرئيسَ السابق في مواجهة تيارات ديمقراطية وقوى سياسية حتى داخل الحزب الجمهوري نفسه، ترى في سياسات نتنياهو المتطرفة تهديدًا للقيم والمصالح الأميركية. وبذلك، قد يحقق الرهان مكاسب قصيرة المدى، لكنه يضاعف المخاطر الاستراتيجية على المدى الطويل ويعيد إنتاج نمط التاريخ الأميركي في المنطقة.
وتُظهر التجارب التاريخية أن المراهنات الأميركية على قيادات غير مؤهلة غالبًا ما تنتهي بأزمات شاملة سياسية وإنسانية، حيث أدت السياسات الأميركية إلى انهيار مؤسسات الدولة وتصاعد العنف وتفاقم الأزمات الإنسانية.يضاف الي ذلك أن دعم ترامب لنتنياهو لن يمنع احتمالات انهيار الحكومة الإسرائيلية نتيجة تفاقم الأوضاع الداخلية، الأمر الذي يزيد من هشاشة أي استراتيجية أميركية تراهن عليه، في ظل تعقّد المشهد الداخلي الإسرائيلي.
وفي المحصلة، يبدو رهان ترامب على نتنياهو خطأً استراتيجيًا كبيراً ، فهو رهان يستند إلى اعتبارات سياسية آنية، ويتجاهل عمدًا تعقيدات الداخل الإسرائيلي والمخاطر الدولية المحيطة، كما يقوم على دعم شخصية مثقلة بالإدانات الدولية وتواجه عزلة متزايدة. إن الإصرار على هذا المسار لا يهدد فقط بإفشال أي خطة أميركية ترتكز على نتنياهو، بل يعرّض واشنطن وتل أبيب لأزمة متصاعدة نتيجة هشاشة قيادته، وتطرّف حكومته، ورفض الشركاء الإقليميين التعامل معه أو الانخراط في توسيع اتفاقيات أبراهام. والأخطر أن هذا النهج يعيد إنتاج أخطاء أميركية تاريخية في تبني سياسات تغيير الأنظمة والمراهنة على شخصيات فاقده للمصداقية، وهو ما يفتح الباب أمام تكلفة استراتيجية وسياسية وإنسانية تفوق بكثير أي مكاسب ظرفية، خاصة أن الاستقرار الإقليمي لا يمكن أن يُبنى على رهانات قصيرة النظر أو على قادة محاصرين بالأزمات الداخليه والدولية.
السفير عمرو حلمي

















0 تعليق