لم يكن جواكينو روسيني مجرد ملحن عابر في تاريخ الموسيقى، بل كان ظاهرة فنية استثنائية قلبت موازين الأوبرا في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، امتلك موهبة فطرية مذهلة، وذكاءً موسيقيًا جعله يلقب بـ«عبقري الأوبرا الإيطالية» ومبتكر أسلوب جديد جمع بين الكوميديا والدراما والرقة اللحنية، ليصبح أحد أعمدة الفن الأوبرالي في العالم.
ولد روسيني في 29 فبراير عام 1792 بمدينة بيزارو في إيطاليا، لأسرة موسيقية متواضعة، فوالده كان يعزف على البوق في فرقة محلية، ووالدته مغنية أوبرا تمتعت بصوت جميل، منذ طفولته أبدى جواكينو ميولًا موسيقية واضحة، فبدأ يعزف على الكمان والبيانو في سن مبكرة، وسرعان ما اكتسب موهبة التأليف الموسيقي، التحق بمعهد بولونيا للموسيقى وهو في الرابعة عشرة، وهناك برزت عبقريته في كتابة الألحان وتوزيعها.
في الثامنة عشرة فقط، قدم روسيني أول أوبرا له بعنوان "حجر المحك" (La Cambiale di Matrimonio)، ولاقت استحسان الجمهور والنقاد، فكانت البداية لمسيرة فنية حافلة ستحدث ثورة في عالم الأوبرا الإيطالية، ومع بداية عشرينيات القرن التاسع عشر، أصبح روسيني النجم الأول في سماء الموسيقى الأوروبية، إذ أبدع عشرات الأوبرات التي جمعت بين خفة الظل والبراعة اللحنية والتأثير الدرامي العميق.
عام 1816 كتب تحفته الخالدة "حلاق إشبيلية" (Il Barbiere di Siviglia)، التي تعد واحدة من أعظم وأشهر الأوبرات في تاريخ الفن العالمي، كانت الأوبرا مقتبسة من مسرحية الكاتب الفرنسي بيومارشيه، وقد جسدت شخصية "فيجارو" الحلاق الذكي الذي يستخدم الحيلة والدهاء لمساعدة العاشقين، وعلى الرغم من أن العرض الأول للأوبرا قوبل بصيحات استهجان من جمهور روما، فإنها تحولت لاحقًا إلى عمل خلد في الذاكرة، وأصبحت من أكثر الأوبرات أداءً في العالم حتى اليوم.
لم يتوقف روسيني عند الكوميديا، بل اقتحم المجال الجاد بقوة، فكتب روائع مثل "عطيل" و"ويليام تيل" (Guillaume Tell)، التي مثلت ذروة النضج الفني في مسيرته، إذ جمع فيها بين التعبير الدرامي العميق والموسيقى الغنائية الرقيقة، ولحن أيضًا أعمالًا مثل رحلة إلى ريمس وسندريلا والمصرية إليزابيتا، مما جعله سيد الأوبرا الإيطالية بلا منازع.
اللافت أن روسيني توقف عن كتابة الأوبرات وهو في سن السابعة والثلاثين فقط، بعد أن بلغ ذروة المجد والشهرة، وقد أثار قراره الغامض الكثير من التساؤلات، إلا أنه برر انسحابه بأنه تعب من ضغوط المسارح الأوروبية ورغب في التفرغ لحياته الخاصة، عاش في باريس سنواته الأخيرة، وواصل تأليف مقطوعات دينية وموسيقية قصيرة عرفت باسم "خواتيم روسيني"، أبرزها القداس الصغير المهيب (Petite Messe Solennelle)، الذي عكس صفاء روحه وعمق إحساسه الفني.
تميز أسلوب روسيني بثراء الألحان وسلاسة الإيقاع وسحر الميلودي، وابتكاره ما عرف بـ"الكرشندو الروسيني" أي التصاعد الموسيقي التدريجي الذي يبني التوتر والانفعال حتى يبلغ الذروة وهو الأسلوب الذي أثر في أجيال من الملحنين بعده مثل فيردي وبيزيه ودونيزيتي.
توفي جواكينو روسيني في باريس في 13 نوفمبر عام 1868، بعد أن ترك إرثًا موسيقيًا ضخمًا غيّر وجه الأوبرا إلى الأبد وحتى اليوم، ما زالت أعماله تعرض على أكبر مسارح العالم، شاهدة على عبقريته التي جمعت بين البهجة والعاطفة والدراما في تناغم موسيقي خالد.
لقد كان روسيني نغمة لا تشبه سواها، وعبقرية سبقت عصرها، جعلت من الأوبرا الإيطالية فنًا عالميًا نابضًا بالحياة، يفيض بالإنسانية والمرح والجمال.













0 تعليق