في مشهدٍ يُوصف بأنه تحوّل تاريخي في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، أثار فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك ضجة (غير مسبوقة) تخطت حدود المدينة إلى أروقة السياسة والإعلام الأمريكي ككل، ليصبح الحديث عن ممداني ليس مجرد فوز انتخابي، بل انعكاساً لتحولات فكرية واقتصادية وإنسانية تضرب عمق المجتمع الأمريكي في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه.
غزة في قلب نيويورك.. وفوز يتجاوز الجغرافيا
أكد الكاتب والباحث السياسي محمد العالم، أن فوز زهران ممداني لم يكن حدثاً محلياً محصوراً في نيويورك، بل كان ظاهرة وطنية أثارت جدلاً في عموم الولايات المتحدة.
وأوضح أن التحولات العالمية، ولا سيما الحرب في قطاع غزة، كان لها أثر بالغ في تغيير المزاج السياسي الأمريكي، مشيراً إلى أن نيويورك مدينة عالمية تهتم بكل ما هو دولي، تتأثر وتؤثر في القضايا الإنسانية.
وأضاف العالم أن اعتراف ممداني بالإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين أكسبه احترام قطاعات واسعة من الديمقراطيين والحقوقيين داخل الولايات المتحدة، دون أن يخسر في الوقت ذاته تأييد اليهود، بعدما أكد أنه يؤمن بحق الوجود، وهو موقف متوازن يعبّر عن وعي سياسي عميق من زهران ممداني.
تحولات الديمقراطيين وتأثير "الترمبية"
وأشار الباحث إلى أن المجتمع الديمقراطي الأمريكي تأثر بوضوح بما أسماه “التجربة الجمهورية أو الترمبية”، موضحاً أن الرئيس دونالد ترامب نجح خلال سنوات حكمه في فرض نهج سياسي استثنائي داخل الحزب الجمهوري، ما انعكس على الحياة السياسية الأمريكية بأكملها.
ورأى العالم أن صعود ممداني يمثل ردّاً ناعماً من الديمقراطيين على هذا التيار الجمهوري المتشدد، ومحاولة لإعادة التوازن داخل المشهد السياسي عبر وجوه جديدة قادرة على مخاطبة ترامب بلغته ذاتها ولكن بعقلية تقدمية إنسانية .
الاقتصاد.. العامل الحاسم في عقل الناخب الأمريكي
وفي تحليله لجوهر الفوز، شدّد الباحث محمد العالم على أن العامل الاقتصادي يبقى المحدد الأكبر في أي انتخابات أمريكية، سواء كانت رئاسية أو تشريعية أو محلية.
وأوضح أن المواطن الأمريكي يصوّت لمن يطمئن إلى قدرته على تحسين وضعه المعيشي وتأمين احتياجاته اليومية، مضيفاً أن ممداني استطاع أن يقدم برنامجاً انتخابياً واقعياً، يعكس هموم الطبقة المتوسطة والمنخفضة التي تضررت من تضخم الأسعار وتراجع الخدمات.
نيويورك.. المدينة التي عصت على ترامب
وفي ذات السياق أكمل العالم تصريحاته أن نيويورك بطبيعتها مدينة ديمقراطية التكوين، شديدة التفاعل مع السياسة، لا تكتفي بالمراقبة بل تؤثر في اتجاهاتها وتعبّر عنها في الشارع.
وأشار إلى أن الغضب الشعبي المتراكم ضد سياسات ترامب ظهر بوضوح في المظاهرات الأخيرة التي اجتاحت الولاية، مؤكداً أن تلك التظاهرات كانت رسالة صريحة برفض “الترمبية” والبحث عن وجوه ديمقراطية جديدة قادرة على المواجهة بجرأة ووضوح.
وأضاف أن الحرس القديم في الحزب الديمقراطي فقد جزءاً من قدرته على مجابهة التيار الشعبوي الجمهوري، وهو ما استشعره الناخب في نيويورك الذي رأى في زهران ممداني صوتاً عصرياً يمكنه تحدي ترامب ومن على شاكلته بخطاب مختلف يجمع بين الإنسانية والحزم.
مؤشر سياسي لمستقبل الانتخابات الأمريكية
وفي ختام تحليله، رأى الباحث محمد العالم أن هذا الفوز يحمل دلالات سياسية خطيرة ومؤشرات مبكرة على قدرة الحزب الديمقراطي على تجديد نفسه وتقديم جيل جديد قادر على كسب ثقة الشارع الأمريكي.
وأكد أن المجتمع الأمريكي بات مهيأً لتغيير المشهد في انتخابات التجديد النصفي المقبلة، ما قد يؤدي إلى إضعاف نفوذ ترامب داخل الحزب الجمهوري وتراجع فرصه في العودة بقوة إلى البيت الأبيض.
وأشار المحلل السياسي إلى أن ترامب يعيش حالياً مرحلة مفصلية حقيقية، إذ يفتقد إلى سيطرته السابقة على الكونغرس، ما سيعطل تنفيذ أجندته السياسية والاقتصادية حتى ما بعد عام 2028، مضيفاً أن هذا الواقع الجديد سيدفع ترامب إلى تصعيد خطابه العدائي في محاولة لاستعادة قواعده الانتخابية قبل نهاية عام 2026.
الملهم الأول.. الأب الذي زرع الوعي في قلب ابنه
جدير بالذكر لم يكن صعود زهران ممداني إلى قمة المشهد السياسي الأمريكي وليد الصدفة، بل هو ثمرة تربية فكرية وإنسانية عميقة تأثر فيها بوالده، المفكر العالمي محمود ممداني، أحد أبرز الباحثين في مجالات الاستعمار والسياسة الإفريقية والعلاقات الدولية.
ولد محمود ممداني في أوغندا لأسرة هندية الأصل، وعُرف بدراساته النقدية التي كشفت آثار الاستعمار الغربي على المجتمعات النامية، ودعوته الدائمة إلى العدالة الاجتماعية والمساواة.
وقد شكّل الأب نموذجاً وملهماً لابنه زهران، الذي حمل الوعي الإنساني من بيت علم وثقافة، ونقله إلى ساحة السياسة الأمريكية، ليُترجم ما تربى عليه من قيم العدالة والتنوع إلى مشروع عملي في نيويورك، المدينة التي تعكس تنوع العالم كله.
هكذا لا يُختزل فوز زهران ممداني في منصب، بل يُقرأ كعلامة فارقة على تحوّل عميق في وجدان أمريكا، بين جيلٍ يبحث عن إنسانية السياسة، وأمةٍ تعيد رسم هويتها من جديد.











0 تعليق