في أعماق الأرض بعيدًا عن ضوء الشمس ودفء الحياة يقبع عشرات الفلسطينيين في مكان لا يعرف الرحمة يعرف باسم سجن راكيفيت. هناك خلف جدران صامتة لا تنقل سوى الأنين يعيش بشر منسيون في ظروف وُصفت بأنها جحيم حي مجردون من أبسط حقوقهم في الحرية والكرامة.
تقرير صحيفة الغارديان البريطانية لم يكن مجرد كشف صحفي بل صرخة إنسانية مدوية تفضح ما يحدث في هذا المعتقل السري حيث يُحتجز أكثر من مئة فلسطيني أغلبهم مدنيون دون تهم أو محاكمات وكأنهم خارج حدود الإنسانية والقانون. إنها قصة الألم والظلم والصمت الدولي قصة أناس حقيقيين تُطفأ أنفاسهم في الظلام بينما يواصل العالم المضي في صمته الثقيل.
بحسب الشهادات التي جمعتها الصحيفة يُحرم المعتقلون من رؤية ضوء الشمس أو الحصول على غذاء كاف كما يُمنعون من التواصل مع عائلاتهم أو معرفة أي أخبار عن العالم الخارجي. وتشير الإفادات إلى أن بعض المعتقلين تعرضوا للضرب المبرح والعنف المتكرر وهو ما وصفه محامون بأنه تعذيب ممنهج يشبه ما تم توثيقه في مراكز احتجاز إسرائيلية أخرى. ومن بين الحالات التي أوردها التقرير ذُكر اعتقال ممرض فلسطيني أثناء عمله في أحد مستشفيات غزة إضافة إلى شاب يعمل بائع طعام أوقف عند حاجز إسرائيلي واعتُقل دون أي تهمة علمًا بأن كليهما لم يُعرضا على أي جهة قضائية حتى الآن.
أُنشئ سجن راكيفيت في أوائل الثمانينيات لاستيعاب مجرمين إسرائيليين مصنفين خطرين لكنه أُغلق لاحقًا بسبب الظروف اللاإنسانية التي سادت داخله. غير أن السجن أُعيد فتحه بعد هجمات السابع من أكتوبر عام 2023 بأمر مباشر من وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير ليصبح مركزًا سريًا لاحتجاز فلسطينيين من غزة.
تتكون منشآت السجن بالكامل تحت الأرض بما في ذلك الزنازين وغرف التحقيق وساحة التمرين وغرف لقاء المحامين مما يعني انعدام الضوء الطبيعي والهواء النقي داخل السجن. وكان مصممًا لاحتواء نحو خمسة عشر شخصًا فقط إلا أنه الآن بحسب التقرير يضم أكثر من مئة محتجز في مساحة ضيقة ومغلقة.
تؤكد اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل أن ما يحدث في سجن راكيفيت يشكل انتهاكًا فاضحًا لحقوق الإنسان إذ يُحرم المحتجزون من حقهم في المثول أمام القضاء ومن الضمانات الأساسية المنصوص عليها في اتفاقيات جنيف. وترى اللجنة أن هذه الممارسات تندرج ضمن جرائم التعذيب والاختفاء القسري التي تستوجب المساءلة القانونية الدولية.
في المقابل صرح الوزير إيتمار بن غفير أن السجن يُستخدم لاحتجاز عناصر من حركة حماس ومقاتلين من حزب الله دون أن يعلق على الحالات المدنية أو الاتهامات المتعلقة بالتعذيب وسوء المعاملة. ويثير هذا الصمت الرسمي تساؤلات خطيرة حول الشفافية والمساءلة خصوصًا في ظل غياب الرقابة المستقلة على هذه المنشأة السرية.
يكشف هذا التقرير عن تدهور خطير في منظومة العدالة الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين خصوصًا في ظل الحرب المستمرة على غزة. فغياب التهم الرسمية وحرمان المحتجزين من حقوقهم الأساسية يعكس تسييسًا واضحًا للمنظومة الأمنية والقضائية ويطرح تساؤلات حول استخدام الاعتقال كسلاح ضغط جماعي ضد المدنيين.
يا لها من ازدواجية صارخة في المعايير فبينما ينقلب العالم رأسًا على عقب من أجل جمع رفات إسرائيليين يُترك الفلسطينيون خلف القضبان دون تهم ودون محاكمات ودون أي حقوق إنسانية أساسية. وهنا يبرز التساؤل أين هي مبادئ حقوق الإنسان على الصعيد الدولي إن الموقف يتطلب فتح تحقيق أممي مستقل حول مدى التزام إسرائيل باتفاقية مناهضة التعذيب ومساءلتها قانونيًا أمام المحكمة الجنائية الدولية في حال ثبوت وقوع انتهاكات ممنهجة إلى جانب ضرورة ممارسة ضغوط دبلوماسية وحقوقية حقيقية تدفعها للسماح بزيارة لجان الصليب الأحمر ومنظمات حقوق الإنسان للمعتقلات والسجون.
سجن راكيفيت ليس مجرد منشأة احتجاز بل هو رمز لانهيار المعايير الإنسانية في زمن الصراع. إن الكشف عن هذا المعتقل السري يعيد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: هل يمكن لأي دولة أن تبرر التعذيب والاحتجاز السري باسم الأمن دون أن تفقد شرعيتها الأخلاقية والقانونية.
على مدى عقود طويلة شكلت سجون الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أكثر أدوات القمع حضورًا في الصراع مع الشعب الفلسطيني. فخلف القضبان لا يُحتجز الأفراد لمجرد اتهامات قانونية بل يُسجن وطن بأكمله في معركة يومية من أجل الكرامة والصمود. تضم هذه السجون اليوم آلاف الفلسطينيين من بينهم أطفال ونساء وشيوخ ومرضى يعيشون في ظروف قاسية تُنتهك فيها حقوق الإنسان بشكل ممنهج.
الحرمان من الزيارة والتعذيب النفسي والجسدي والإهمال الطبي المتعمد كلها سياسات تهدف إلى كسر الإرادة وإخماد الصوت الفلسطيني المقاوم. ورغم إدانات المنظمات الدولية وتكرار الدعوات لإيقاف هذه الانتهاكات لا تزال تلك الزنازين شاهدة على وجع مستمر وصمت عالمي مؤلم فيما تبقى الحرية حلمًا مؤجلًا ينتظر لحظة الفجر بعد ليل طويل من الأسر.
وبرغم إعلان وقف إطلاق النار الذي روّج له المجتمع الدولي كخطوة نحو التهدئة والسلام إلا أن الواقع يكشف عكس ذلك تمامًا فالانتهاكات الإسرائيلية مستمرة داخل السجون كما هي لم تتوقف ولم تتراجع بل اتخذت أشكالًا أكثر قسوة تحت غطاء الصمت الدولي والتواطؤ السياسي الذي يمد الاحتلال بمزيد من الجرأة على سحق الإنسان الفلسطيني وإهانة كرامته خلف القضبان.

















0 تعليق