Advertisement
فهذا الهاجس الذي يقلق "الثنائي الشيعي" من المفترض أن يُقابَل من الآخرين بشيء من التفهم لهذا الواقع، الذي يختزل معاناة الشعور بأنه مستهدف من الخارج والداخل، وبأن الانتخابات النيابية المقبلة لن تكون "مريحة" له، خصوصًا إذا صبّت أصوات المغتربين المعروفي الانتماء لمصلحة أحد المرشحين من خارج الاصطفاف الشيعي، الذي لم تُخرق "أسواره" إلاّ مرة واحدة بانتخاب شقيق الرئيس حسين الحسيني في جبيل النائب المرحوم مصطفى الحسيني.
فانتخاب ممداني لم يكن حدثًا عاديًا في السياسة الأميركية، بل علامة فارقة في الوعي السياسي العربي والإسلامي المعاصر. فقد أثبتت التجربة الأميركية مرّة جديدة أنّ الانتماء الديني لا يتناقض مع الانتماء الوطني، وأنّ المواطن لا يُختزل في طائفته أو مذهبه، بل في فكره وقدرته على الإقناع وخدمته للناس.
في نيويورك، المدينة التي تختصر العالم، وصل رجل مسلم إلى منصب رفيع عبر صناديق الاقتراع وحدها، من دون وصاية من رجال دين، ولا توجيهات حزبية، ولا تهديدات مبطّنة بالنسبة إلى "وحدة الصف". فالمسلمون هناك، كما سائر المكونات، يمارسون حقهم في الاختيار بحرية، لأنّ الديمقراطية الحقيقية لا تعرف "الثنائيّات" ولا "اللوائح المقفلة".
والعودة إلى فوز ممداني فإنه قد أسقط الحجة التي يحاول "الثنائي" تسويقها لتبرير تمسّكه بالقانون الانتخابي الحالي وبالدائرة الـ 16. فإذا كان المسلم في نيويورك يستطيع أن يُنتخب على قاعدة فكره لا مذهبه، وأن يمثل ناخبيه لا طائفته، فلماذا لا يُسمح للشيعي اللبناني بأن يختار ممثله من دون أن يُخَوَّن أو يُقصى؟ لماذا يُربط الوجود الشيعي السياسي بحزبين فقط، بينما العالم كله يتّسع للتنوع والاختلاف؟
فالقوي والواثق من نفسه لا يخاف من الحرية والديمقراطية. هذا ما فعله زهران ممداني عندما ترشّح في أكبر مدينة أميركية، إذ يبلغ عدد سكانها أضعاف مضاعفة من عدد سكان لبنان، ولذلك لم يكن انتخابه حدثاً أميركياً فحسب، بل صفعة ديمقراطية مدوّية على وجه نظام الوصاية الطائفية في أي مكان في العالم، وبالأخصّ في لبنان، وهو رسالة واضحة بأنّ الانتماء الديني لا يُقاس بالولاء السياسي، وأنّ الحرية لا تهدد الهوية، بل تحرّرها.
وفي موازاة هذه الرسائل الرمزية، تعود الحكومة اللبنانية لتؤكد عمق الأزمة البنيوية في النظام السياسي اللبناني، بعد تعليق العمل بالمادة 112 من الدستور، ورمي الكرة مجدداً في ملعب ساحة النجمة.
بهذا القرار، تكون السلطة التنفيذية قد تخلّت عن مسؤوليتها، مكرّسة من جديد منطق المراوغة والهرب إلى الأمام، تاركةً المؤسسة التشريعية تواجه انفجار الملفات الدستورية والمالية والإدارية دفعة واحدة، في لحظة عجز سياسي شامل.
فمجلس النواب سيجد نفسه أمام امتحان صعب. فإما أن يتحمّل مسؤولياته ويعيد انتظام الحياة الدستورية من خلال موقف جريء يفتح الباب أمام إصلاح حقيقي، وإما أن يرضخ كالعادة لمنطق المحاصصة، فيتحول إلى شاهد زور على انهيار ما تبقّى من الدولة.
هكذا، بينما تجرؤ ديمقراطية نيويورك على كسر التقاليد المذهبية بانتخاب مسلم تقدميّ، يستمرّ لبنان في تقييد مواطنيه بسلاسل الطوائف والعجز. ولعلّ المفارقة الأشدّ مرارة هي أن الحرية التي مارسها زهران ممداني في الغرب، ما زال اللبناني يحلم بها في وطن وُلد ليكون منارة للشرق فإذا به غارق في عتمة وصاياته.








0 تعليق