السبت 08/نوفمبر/2025 - 03:27 م 11/8/2025 3:27:21 PM
فوجئنا يوم أمس، الجمعة الأولى التالية لافتتاح المتحف المصري الكبير، بزحف شعبي قاصدا ميدان الرماية آخر حي الهرم حيث مقر المتحف المصري الكبير لزيارة هذا الصرح العظيم ومشاهدة مقتنياته التي أبهرت زعماء العالم خلال أيام الافتتاح الثلاثة. تحرك الجين الحضاري ليعبر عن نفسه فخرج الآلاف من المواطنين ليشاهدوا بأعينهم ما تابعوه قبل أقل من أسبوع عبر الشاشات. ما أذهلني بالفعل هو كثرة عدد المواطنين المتوافدين لزيارة المتحف، ما اضطر إدارته إلى اتخاذ قرار إغلاق مؤقت للأبواب أمام المواطنين بعد أن بلغ عدد الزوار الحد الأقصى المسموح به وفق سعة الاستيعاب المقررة للزيارة في اليوم الواحد.
أمر مدهش حقا، أليس كذلك؟ لكنني لا أراه كذلك مطلقا، إذ ليس هذا بمستغرب على الإطلاق عند كل من يعرف حق المعرفة قدر عظمة المصريين ومستوى وعيهم وعشقهم لحضارتهم. رغم ما قد يتهم به بعضهم جيلنا الحالي بالسطحية أو عدم الاكتراث أو اللامبالاة، أظل على قناعة تامة ودائما ما أصرح بها من أن المصريين يُظهرون معدنهم الحقيقي حين يُستدعون أو بالأحرى حين يستشعرون خطرا أو يواجهون تحديا. وأضيف على هاتين الحالتين حالة ثالثة، إذ أرى أن الجينات الحضارية المصرية تظهر للعيان حين يجدون محفزا وطنيا وحدثا عملاقا كهذا الذي شاهده العالم ليلة افتتاح المتحف الكبير.
توقفت كثيرا، كما فعل غيري منذ فتح المتحف أبوابه للزائرين صباح الثلاثاء الماضي، أمام صور أولاد البلد من القرويين أو سكان الحارات الشعبية الذين قرروا زيارة مجد أجدادهم الأولين. ذهب هؤلاء إلى المتحف على غير عادة الطبقة دون المتوسطة، ذهبوا بزيهم التقليدي دون تكلف أو بهرجة، مضوا بعفوية وبساطة تزينها عفة نفس ويغلفها شعور قوي بأن هذا المتحف بكل محتوياته وبعظمة مبناه أمر يخصهم. لم يثنهم ما قيل عن ارتفاع أسعار التذاكر أو بُعد المسافة، أو ما أعلن عن عدم السماح بإدخال المأكولات والمشروبات كعادة المصريين في نزهاتهم.
الأجمل من كثافة الأعداد وكثرة التدفقات، كان منهجية التفكير، فحين اضطرت إدارة المتحف إلى إغلاق الأبواب أمام آلاف المواطنين الذين توافدوا منذ الصباح، لم يقبلوا أن يعودوا أدراجهم. تعامل هؤلاء الزوار مع الموقف بذكاء فطري ربما توارثوه من أجدادهم القدماء جيلا بعد جيل. قرر هؤلاء أن يزوروا آخر ما تبقى من عجائب الدنيا السبع. توافد نحو 30ألف زائر نحو هضبة الهرم ليقفوا سعداء أمام الأهرامات وليتأملوا ملامح تمثال أبو الهول حيث قطع أثرية خالدة تشهد بعظمة الأجداد، فكانت خطواتهم تلك دليلا على تحضر الأحفاد وأن جينات المحتلين أو من خالطوهم من الجنسيات والأعراق البشرية الأخرى على مر التاريخ لم تنجح مخططاتها بتغيير الهوية، كما أنها لم تقطع الصلة بين المصريين وأسلافهم الأولين.
ندمت أشد الندم إذ لم تمكنني الظروف لأكون بين هذا الفوج الأول الذي زار المتحف صباح الثلاثاء الماضي، رغم أنني زرته مرتين من قبل في مهام عمل، خلال فترة التشغيل التجريبي، لكن سيبقى مشهد زعماء العالم الذين وقفوا منبهرين أمام قناع توت غنخ آمون، ثم مشهد تدفق المصريين نحو الهرم بعد أن فقدوا الأمل في السماح لهم بالدخول إلى المتحف، هما الأبرز والأهم بالنسبة لي خلال عام 2025.أضف إليهما مشهد هذا المواطن المصري الفلاح الأصيل الذي وقف يرمق عن بُعد ببصره المومياء المصرية بهيبة واحترام نطقت بهما نظرته إليها.
الجميل في الأمر أيضا أن زيادة تدفق الزوار اضطرت إدارة المتحف إلى الإعلان عن إجراءات تنظيمية لتجنب التكدس في قادم الأيام وخاصة أيام العطلات الرسمية ونهايات الأسبوع، إذ تقرر قصر حجز وشراء تذاكر الدخول على الموقع الإلكتروني للمتحف ووقف الحجز من شبابيك التذاكر خلال تلك الأيام المحددة. بالطبع، تهدف تلك الإجراءات إلى ضمان زيارة ممتعة وآمنة للزوار وللمقتنيات في آن واحد بما يتسق والطاقة الاستيعابية للمتحف. علينا أيضا أن نعنى بزيادة الوعي بحضارتنا الخالدة سواء من خلال الأعمال الفنية أو البرامج الإعلامية أو حتى المناهج الدراسية في المدارس والجامعات. ومن خلال متابعاتي على المستوى الشخصي، عرفت أن مؤسسات كثيرة وخاصة المدارس ومراكز الشباب وبعض مؤسسات العمل الأهلي في القرى بدأت في تنظيم زيارات لمواطني المحافظات القريبة من العاصمة في رحلة اليوم الواحد نحو المتحف ليقضوا اليوم بأكمله هناك. مرحبا ألف مرة بهذا الوعي الحضاري الكبير المعبر عن عظمة الشعب المصري وتحضره.


















0 تعليق