الجواب يبدأ من تركيبة السلة الاستهلاكية نفسها. فالغذاء، حصةٌ كبرى من إنفاق الأسر، ما زال يتحرّك على وتيرة أعلى من بقية البنود، إذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الكحولية بنحو 23.9% على أساس سنوي في أيلول 2025. أي أن بنداً واحداً يبتلع مفعول التباطؤ في بنود أخرى أقل وزناً، فيبقى "التضخّم المعيشي" ملموساً حتى لو أظهر المؤشر العام هدوءاً نسبياً. ومن زاوية الاقتصاد الجزئي، تتغذّى هذه الفجوة من كلفة الاستيراد ورسومه وهوامش المخاطر في التسعير، على الرغم من استقرارٍ نسبي في سعر الصرف منذ منتصف 2025.
العنصر الثاني هو الطاقة، حيث يدفع اللبناني عملياً فاتورتين: كهرباء رسمية محدودة الساعات وكهرباء المولد الخاص بكلفة مرتفعة. صحيح أن الحكومة أعلنت برامج تمويل ومسارات إصلاح لتخفيف فاتورة المولد على المدى المتوسط، ومنها تمويل من البنك الدولي بقيمة 250 مليون دولار وُقّع في نيسان 2025 واستُكمل بإطار أوسع في حزيران، يستهدف تحسين التحصيل وتمويل طاقة شمسية وربطها بالشبكة، لكن أثر هذه المشاريع يحتاج وقتاً لينعكس على المستهلك. وإلى أن تُنفَّذ الأعمال ويزداد التزويد من الشبكة، تبقى كلفة الكيلوواط من المولد هي المحدِّد الفعلي لميزانية المنزل.
ولا يمكن قراءة فاتورة الطاقة بمعزل عن المناخ. فلبنان يعيش في 2025 أسوأ موجة جفاف مُسجّلة، بما عطّل الإنتاج الكهرمائي على مجرى الليطاني وخزانه الرئيس في القرعون، ودفع إلى تقنين أطول وإلى ارتفاع كلفة التشغيل على المولدات. بهذا المعنى، انتقلت أزمة المياه مباشرة إلى خانة التضخّم المعيشي، ليس عبر أسعار المياه فحسب، بل عبر كلفة كل سلعة وخدمة تعتمد على كهرباء باهظة.
العنصر الثالث يتصل بالسياسات الضريبية والرسومية. فمع ثبات ضريبة القيمة المضافة عند 11%، تظلّ بنودٌ أخرى في سلاسل التسعير، من رسوم وجمارك وإتاوات خدمات، قابلة للتعديل وربطها بسعر صرف السوق، ما يرفع "أرضية الأسعار" حتى عندما يتباطأ المؤشر العام. عملياً، يواجه المستهلك مروحة تسعير "مدولرة" على نطاق واسع، بينما تبقى الأجور أبطأ بكثير في اللحاق بهذا التحول، فتتسع الفجوة بين التضخّم الإحصائي وتضخّم المعيشة.
اقتصادياً، يمكن تلخيص المفارقة كالآتي: تباطؤ التضخّم يعني أن "سرعة" ارتفاع الأسعار انخفضت، لا أن الأسعار عادت إلى الوراء. حين تكون القاعدة السعرية قد ارتفعت مرات عدة في السنوات السابقة، فإن تباطؤ 2025 يُنتج راحةً إحصائية لا تُترجم تلقائياً إلى تحسّن معيشة. ولأنّ الإنفاق يتجمّع في بنود قاسية، مثل الغذاء، الطاقة، والإيجار، فإن أي تحسن في بنود أخرى أقلّ وزناً لا يغيّر إحساس المستهلك بما يدفعه في نهاية الشهر.
على المستوى الكلي، تُراهن الحكومة على أن تمويلات البنية التحتية، خصوصاً في الكهرباء، ستكسر الحلقة عبر خفض كلفة الإنتاج والتوزيع وتقليل الاعتماد على المولدات. لكنّ التحدّي مزدوج: تمويلٌ كافٍ وتنفيذٌ سريع. تقارير التمويل الدولي تُظهر أن الجزء الأكبر ما زال في طور الإقرار أو التوسيع، وأن تأثيره لن يظهر إلا تباعاً مع دخول المشاريع حيّز التنفيذ وربط القدرات الجديدة بالشبكة، وهو ما يستدعي متابعة لصيقة زمنياً ومكانية لقياس أثره الفعلي على ساعات التغذية وفاتورة المولد في الأحياء.
خلاصة التحليل أن التضخّم "الهادئ" في الجداول لا يُناقض صعوبة العيش في الواقع، بل يشرحها: المؤشر يهدأ لأن السلة الشاملة تبطؤ، بينما جيوب الناس تُقاس بسلة أصغر وأكثر قسوة. الطريق إلى تضييق الفجوة معروف بأدواته، ولا يمكن أن يتم إلا عبر تسريع مشاريع الكهرباء المموّلة وربطها بمؤشرات أداء علنية تُقاس شهرياً، ضبط حلقات الاستيراد والتسعير عبر شفافية أكبر وهوامش مراقَبة، وتعديل سياسات الأجور بما يتناسب مع دولرةٍ فعلية للعديد من الأسعار. إلى أن يحدث ذلك، سيظلّ العنوان صحيحاً: تضخّم هادئ على الورق… ومعيشة لا تهدأ.













0 تعليق