لا يمكن اعتبار انتخاب زهران ممداني (Zohran Mamdani) رئيساً لبلدية نيويورك مجرد حدث محلي عابر في السياسة الأميركية، بل هو علامة سياسية واجتماعية فارقة تحمل دلالات تتجاوز حدود المدينة لتصل إلى قلب النقاش الدائر حول مستقبل الحزب الديمقراطي ومعنى التقدّمية في الولايات المتحدة، والعلاقة الأميركية – الإسرائيلية في سياقها الشعبي ف Mamdani ، الشاب المسلم والناشط المعروف بمواقفه الجريئة تجاه العدالة الاجتماعية وحقوق الفلسطينيين، يمثل جيلاً جديداً من السياسيين الذين تحدّوا المؤسسة التقليدية، وانتصروا من خلال خطاب تعبوي يعبّر عن نبض الشارع وتطلعاته.
من الناحية السياسية الداخلية، يعكس انتخاب Mamdani تحوّلاً عميقاً في المزاج العام داخل المدن الأميركية الكبرى، وخاصة نيويورك التي لطالما كانت مختبراً للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فالصراع لم يعد مقتصراً على علي الديمقراطيين والجمهوريين بل أصبح هناك صراع آخر داخل الحزب الديمقراطي نفسه بين جناحه التقليدي المحافظ نسبياً وجناحه التقدّمي الذي يطالب بسياسات أكثر حزماً في معالجة الفقر والإسكان والتعليم والمواصلات العامة.
ففوز Mamdani جاء نتيجة عمل طويل قاده شباب وناشطون من خلفيات عمالية وطلابية، بعيداً عن تمويل الشركات الكبرى أو دعم اللوبيات المعتادة. هذا الانتصار هو بمثابة رسالة إلى النخبة في واشنطن بأن قدرتها على ضبط الخطاب السياسي لم تعد مطلقة، وأن الشارع الذي يعبّر عن الطبقات المتوسطة والفقيرة، الغاضب من النخبة السياسية، بدأ يفرض حضوره من القاعدة إلى القمة.
أما على المستوى الرمزي، فإن وصول Mamdani إلى هذا المنصب يؤكد اتساع مفهوم التمثيل في المجتمع الأميركي، حيث يُنتخب مسلم تقدّمي صريح في مواقفه من قضايا مثل فلسطين ، في مدينة تضم أكبر تجمع يهودي في الشتات اذ إن دلالات هذا الحدث لا تتوقف عند مسألة الهوية الدينية أو العرقية، بل تتصل أيضاً بطبيعة التحالفات الجديدة داخل المدن الكبرى. فقد أظهرت نتائج الانتخابات أن نسبة غير قليلة من اليهود الأميركيين، وخاصة من الفئة الشابة أو التقدمية، صوتت لصالح Mamdani رغم معرفتهم بمواقفه الناقدة لسياسات إسرائيل. هذا التحول يعكس الانقسام في وحدة الخطاب اليهودي التقليدي داخل الولايات المتحدة، الذي كان يرى في دعم إسرائيل موقفاً بديهياً وغير قابل للنقاش. هناك اليوم، بين الجيل الجديد من اليهود الأميركيين، من يربط موقفه من إسرائيل بقيم العدالة وحقوق الإنسان، لا بالانتماء الديني أو القومي، وهو ما استفاد منه Mamdani بذكاء، حين طرح نفسه مرشحاً للعدالة للجميع، لا مرشحاً لهوية معينة.
ردود الفعل الإسرائيلية والإعلامية على انتخاب Mamdani لم تكن متجانسة. فبعض الصحف الإسرائيلية عبّرت عن قلق واضح من صعود شخصية تعتبرها «معادية لإسرائيل»، ورأت في انتخابه إشارة إلى تراجع الدعم الشعبي الأميركي للدولة العبرية، خصوصاً في الأوساط الليبرالية. في المقابل، هناك من يرى أن تأثير Mamdani في السياسة الخارجية سيكون محدوداً بحكم أن رئاسة بلدية نيويورك ليست منصباً مؤثراً في السياسه الخارجية الامريكيه ، وأن اهتمامه سينصب على الملفات المحلية. لكن هذا الرأي يتجاهل البعد الرمزي الكبير لهذا المنصب، فبلدية نيويورك ليست مجرد إدارة محلية، بل منبر إعلامي وسياسي ضخم يستطيع من خلاله أي عمدة التأثير في الرأي العام الأميركي والعالمي..
الانتخاب أيضاً يمثل نقطة توتر جديدة بين التيار التقدّمي في الحزب الديمقراطي واللوبيات الداعمة لإسرائيل داخل الولايات المتحدة، وعلى رأسها لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (AIPAC – American Israel Public Affairs Committee). ف Mamdani هو أحد الأصوات التي انتقدت بشدة السياسات الإسرائيلية تجاه غزة والضفة الغربية ودعا إلى إعادة تقييم الدعم الأميركي غير المشروط لتل أبيب الأمر الذي دفع الرئيس ترامب الي القول "ان أي يهودي يصوّت ل Mamdani يُعدّشخصاً غبياً " بعد ان وصف Mamdani بـ«الشيوعي المجنون»، معتبراً أن فوزه يعكس انحداراً في الوعي السياسي الأميركي. ورغم أن Mamdani لم يتحدث عن أي سياسات رسمية تتعلق بإسرائيل بصفته عمدة باستثناء عما ذكره عن رئيس الوزراء نتنياهو وانه سيعتقله في حاله زيارته لنيويورك ، إلا أن رمزية وجوده في المنصب قد تشجع سياسيين آخرين على اتخاذ مواقف أكثر جرأة في هذا الملف ، وهنا تكمن الخطورة بالنسبة لإسرائيل: ليست في قرار معين، بل في التغيير التدريجي للمناخ السياسي الأميركي Mamdani تجاهها، حيث تصبح الانتقادات التي كانت تعدّ في الماضي «محظورة» جزءاً طبيعياً من النقاش العام
ومع كل هذه الدلالات، لا يمكن تجاهل التحديات التي سيواجهها Mamdani في إدارة مدينة مثل نيويورك . فهناك توازنات اقتصادية معقدة، وضغوط من الشركات العقارية الكبرى، ومخاوف أمنية واجتماعية دائمة، إضافة إلى حساسية العلاقة مع الجاليات المتعددة. نجاحه أو فشله في تحقيق وعوده حول الإيجارات والمواصلات والعدالة الاقتصادية سيحدد مدى استمرارية هذا المدّ التقدّمي داخل السياسة المحلية، وربما على المستوى الوطني لاحقاً.أما بالنسبة للعلاقة مع المجتمع اليهودي، فسيكون عليه أن يثبت أن نقده لإسرائيل لا يعني عداءً لليهود أو تجاهلاً لمخاوفهم الأمنية، وهي معادلة صعبة لكنها ممكنة إذا ما أدار الحوار بذكاء وشفافية.
في نهاية المطاف، يعبر انتخاب Mamdani عن لحظة تحوّل ثقافي وسياسي في أميركا المعاصرة. إنها لحظة تختبر فيها البلاد مدى استعدادها لقبول صوت مختلف، ليس فقط في اللون والدين، بل في الرؤية السياسية نفسها. وإذا كان Mamdani قد نجح في كسر جدار الهيمنة التقليدية في نيويورك، فإن سؤاله الأكبر اليوم هو:هل يستطيع أن يحكم مدينة معقدة دون أن يفقد مبادئه؟وهل سيصبح انتخابه نموذجاً ملهماً لمدن أخرى، أم تجربة معزولة سرعان ما تمتصها المؤسسة؟
ما هو مؤكد حتى الآن أن انتخابه فتح نقاشاً واسعاً حول معنى التقدّمية، وحول العلاقة بين العدالة والقانون الدولي والموقف الامريكيه من قضايا العالم، وفي القلب منها فلسطين وإسرائيل ، إذ يعد انتخابه حدث يتجاوز ، بكل المقاييس، حدود الجغرافيا السياسية لمدينة نيويورك، ليصبح مرآة تعكس التوترات والتحولات العميقة التي تعيشها الولايات المتحدة في زمن يُعاد فيه تعريف العدالة والمواطنة والسياسة نفسها.
السفير عمرو حلمي













0 تعليق