قبل البدء.. أراها مناسبة للإتيان على ما قاله الكاتب الإسرائيلي، سمدار بيري، عن افتتاح المتحف المصري الكبير، في مقال له بعنوان El-SISI's Pyramid، والذي رأى أنه أكبر متحف من نوعه في العالم، يحتفي بإحدى أهم حضارات التاريخ، مصر القديمة وفراعنتها.. وسيكون الرئيس عبد الفتاح السيسي نجم هذا الحدث، الذي قال إنه يهدف إلى التأكيد على (أننا نكشف عن حضارة عريقة، للتأكيد على مكانتنا المتميزة في العصر الحالي).. إلا أن الكاتب يعرج إلى القول، بأنه في الوقت الذي حضرته العديد من الوفود من جميع أنحاء العالم، بما فيهم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، كانت (إسرائيل ليست على القائمة)، كما توقعت.. حتى رئيس الدولة لم يُدعَ!!، (ولا حتى الرئيس هرتسوج، الذي سيُعزز حضوره الرأي العام في العالم العربي).. يحدث هذا بعد أسبوعين من القمة التي استضافتها مصر في شرم الشيخ، حيث تم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وإعادة الرهائن.. سيفتح المتحف أبوابه للجمهور يوم الثلاثاء المقبل.. ولن يتمكن أي إسرائيلي قريبًا من زيارته، حتى بعد الأحداث المتألقة، إذ لم يُسمح للإسرائيليين بدخول مصر منذ بداية الحرب في قطاع غزة.. وأنى للإسرائيليين أن تطأ أقدامهم أرض مصر، وما بيننا مجرد اتفاق سلام، أو قل هدنة طويلة، وليس تطبيعًا للعلاقات بين دولتين وشعبين، ولن يكون إن شاء الله.
●●●
الأهم مما سبق، أن صحيفة (بلومبرج) الأمريكية، انتهزت افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي تناولته الصحف ووكالات الأنباء العالمية بالإشادة، وأصبح التريند الأول على وسائل التواصل الاجتماعي، ليس في مصر وحدها، بل والعالمين العربي والغربي.. وذهبت للحديث عن التوازن الجيوسياسي الذي تحققه مصر الآن، متمسكة بقرارتها، ثابتة على مواقفها المبدئية.. وتؤكد، أنه بينما تتمتع القاهرة بعلاقات قوية مع روسيا والصين وكل دول العالم تقريبًا، فإن علاقاتها مع إسرائيل لا تزال متوترة.. ولكل شيء سبب.. وما بين القديم والحديث، في علاقة مصر بالسلام، تنطلق الصحيفة من المتحف المصري الكبير، قائلة، (عندما تفتح مصر رسميًا أبواب كنزها من القطع الأثرية القديمة، التي تبلغ تكلفته مليار دولار، فإن عظماء السياسة العالمية ورجالها سيقفون في ظل الملك رمسيس الثاني، الذي يبلغ ارتفاع تمثاله أحد عشر مترًا، ويعود تاريخه إلى ثلاثة آلاف ومائتي عام، والمنحوت من الجرانيت الأحمر، يقف ليستقبل الزوار عند القاعة الرئيسية الواسعة للمتحف المصري الكبير، المشروع الذي يسعى إلى تعزيز صناعة السياحة الحيوية، كما يقدم بيانًا لأهمية مصر العالمية المعاصرة).
تقول الصحيفة، أنه بعد عقود من التحضير، يأتي افتتاح المتحف في وقته المناسب تمامًا، إذ يأتي بعد أيام قليلة من استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، وقادة العالم في منتجع شرم الشيخ على البحر الأحمر، حيث روّج الرئيس الأمريكي لخطته للسلام في غزة.. ونُوقشت جوانب هذه المبادرة على هامش استقبال الرئيس السيسي له.. ويُعد الملك رمسيس مبعوثًا مناسبًا، لارتباطه بأول معاهدة سلام دولية مُسجلة في العالم، وهي اتفاقية مع أعداء مصر السابقين، الحيثيين، السكان الأوائل لما يُعرف الآن بتركيا.. وتُعرض نسخة من هذه الاتفاقية في الأمم المتحدة بنيويورك، مُكرسةً الاحترام المتبادل وإرساء نظام عادل.
بعد آلاف السنين، لا تزال تلك الطموحات التي تعود إلى العصر الفرعوني، تحمل صدىً جديدًا في مصر، حيث تستغل أكبر دولة في الشرق الأوسط سكانًا دورها كشريك أو صديق للجميع تقريبًا، من روسيا إلى أوروبا والصين والخليج.. إنه نموذج يُحتذى به للدول متوسطة المستوى، التي تخوض عصرًا من الاضطرابات الجيوسياسية المتصاعدة.. وهنا، يقول ديفيد شينكر، الدبلوماسي الأمريكي السابق، والزميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، (في جميع أنحاء العالم، تتخذ القوى غير العظمى إجراءات تحوطية، مُستغلةً التنافس بين القوى العظمى لمصلحتها.. وتبدو مصر أكثر فعالية من دول أخرى في وضع مماثل).
تُظهر هذه الرؤية المُحكمة، كما نُقلت إلى بلومبرج في حوارات مع مُطلعين ودبلوماسيين ومُحللين، دولةً تسعى جاهدةً لتحقيق أقصى استفادة من موقعها الاستراتيجي، وعلاقاتها المتعددة، ونفوذها الثقافي، حتى في ظل تهديد دول الخليج العربية الأكثر ثراءً بتجاوز نفوذها الإقليمي.. ويكتسب هذا أهميةً خاصة في ظل محدودية موارد مصر الطبيعية، وتضخم سكانها، وتأثرها بأزمة المناخ.. ولكن هذا الاختيار ليس خاليًا من المخاطر، في ظل تأكيد الدول القومية في كل مكان على وجودها، حيث تنخرط الولايات المتحدة والصين في منافسة شديدة، من شأنها أن تحدد النظام العالمي المستقبلي، مما قد يجبر الحكومات على اختيار أحد الجانبين في المستقبل.
لقد أشاد ترامب بمضيفه في شرم الشيخ، الرئيس عبد الفتاح السيسي، واصفًا إياه بـ (رئيس عظيم) و(رجل صالح)، ومؤكدًا (نحن معه حتى النهاية).. لقد مثّل هذا الحدث تحوّلًا جذريًا في العلاقات مع الولايات المتحدة، الساعية إلى إبرام الصفقات، والأقل مثالية، بقيادة زعيمها المؤيد لإسرائيل، بعد أشهر من الخلاف الذي أشعلته حرب إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.. وفي فبراير الماضي، اقترح ترامب تحويل غزة إلى (ريفييرا) في الشرق الأوسط، مع تهجير الفلسطينيين إلى دول مجاورة، بما في ذلك مصر، رغمًا عن القاهرة!!.. ولم يزر الرئيس السيسي واشنطن منذ تولي ترامب منصبه الجديد، مادام كان هذا الطرح قائمًا.. وقد أقرّ مسئول حكومي مصري، بوجود ضغوط مكثفة من حكومات أجنبية، قبل أن يعلن الرئيس السيسي ذلك في احتفالية (وطن السلام) بدار الأوبرا بمدينة الثقافة والفنون بالعاصمة الإدارية، التي بعثت مصر خلالها، برسالة قوية حول دورها التاريخي، كصانعة للسلام وقوة داعمة للاستقرار في المنطقة والعالم.. وأن القاهرة لم ولن تستسلم، وأن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء كان ومازال خطًا أحمرًا بالنسبة لمصر، ونحن متمسكون بمواقفنا.
وترى بلومبرج، أن انخراط مصر العالمي خارج الولايات المتحدة كان أقل صخبًا، ولكنه كان ذا دلالة واضحة.. تُكثّف بكين استثماراتها في منشآت التصنيع والطاقة الخضراء على ضفاف قناة السويس، وتُساهم في تطوير العاصمة الإدارية الجديدة لمصر.. على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تعمل روسيا على إنشاء أول محطة للطاقة النووية في البلاد.. وفي مكان قريب، تُشيّد الإمارات العربية المتحدة مدينة جديدة بالكامل بعد استثمار سياحي بقيمة خمسة وثلاثين مليار دولار.. حتى أن مصر نجحت في موازنة علاقاتها مع خصومها التقليديين.. يتحدث الرئيس السيسي بانتظام مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، مع إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع أوكرانيا.. أعادت مصر بناء علاقاتها مع تركيا وإيران، مع الحفاظ في الوقت نفسه على علاقات قوية مع اليونان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
لقد ساعد هذا النهج القائم على مبدأ (الصداقة للجميع) القاهرة، على مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية تواجهها منذ عقود.. وهو أيضًا مثالٌ صارخ على قدرة الدول متوسطة الحجم، الذكية، على إيجاد سبلٍ لتجاوز حالة عدم اليقين التي يفرضها النظام العالمي متعدد الأقطاب، مستغلةً مزاياها الفريدة.. وتُقرّ وزارة الخارجية المصرية، بأن التطورات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى تغير الأولويات المحلية، أجبرت مصر على إنشاء (دوائر جديدة) في السياسة الخارجية، وتبني (توازن استراتيجي) في إدارة مختلف اللاعبين الدوليين.. مصر، وهي دولة يبلغ عدد سكانها نحو مائة وعشرة ملايين نسمة، بخلاف ضيوفها من الجنسيات الأخرى، وتقع في قلب الشرق الأوسط المُضطرب، لطالما اعتبرت موقفها بمثابة تحقيق الاستقرار في المنطقة، والمساهمة في الأمن والسلام العالميين.. وهذا بدوره يعني، أن للقوى الكبرى مصلحة في الحفاظ على علاقات وثيقة مع القاهرة.. وفي سياق آخر، يُوصف هذا الأمر بأنه منطق (أكبر من أن يُفشل) تستغله القاهرة لمصلحتها.
تسعى مصر إلى بناء شراكات، والحفاظ على علاقات جيدة مع الجميع ـ وهو ما يشمل التنسيق مع الدول ذات التفكير المماثل في منتديات، مثل مجموعة البريكس أو مجموعة العشرين ـ ولكن ليس على حساب الاسترضاء.. وكأي دولة، قد تعاني مصر من تقلبات موقف الرئيس ترامب العالمي المتغير.. فرغم كل إشاداته الأخيرة بالرئيس السيسي، هدد ترامب أعضاء مجموعة البريكس برسوم تجارية إضافية، ويُظهر علامات على فقدان صبره تجاه روسيا، حليفة مصر، لرفضها وقف حربها على أوكرانيا. ويُعدّ توقيع مصر على اتفاقية تعاون لاستخدام نظام الملاحة العالمي الصيني (بايدو)، المنافس لنظامي (جي بي إس) الأمريكي و(جاليليو) الأوروبي، نقطة اشتعال محتملة أخرى في المستقبل.
قد يكون السياق العالمي جديدًا، لكن تحقيق التوازن كان طموح مصر الحديثة منذ عام ١٩٥٢.. على الأقل، عندما أطاح جمال عبد الناصر ومجموعة من الضباط بالنظام الملكي المدعوم من بريطانيا.. وإلى جانب قادة من الهند ويوغوسلافيا وإندونيسيا، أسس حركة عدم الانحياز، وهي كتلة من الدول النامية التي تسعى إلى مسار مستقل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، في ذروة الحرب الباردة.. لقد ثبت أن الحفاظ على الحياد التام أمرٌ بعيد المنال.. فبينما هدأت أزمة السويس عام ١٩٥٦، حين غزت إسرائيل وبريطانيا وفرنسا منطقة القناة، بعد أن طالبت كلتا القوتين العظميين بالانسحاب، رأت واشنطن بشكل متزايد في خطوات عبد الناصر، المتمثلة في الاعتراف بالصين وشراء الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا، دلالةً على التعاطف الشيوعي.
الولايات المتحدة، التي كانت على وشك تقديم الدعم المالي لبناء السد العالي على نهر النيل، ترددت.. وبدلًا من ذلك، تدخلت موسكو لتمويل مشروع يُنظر إليه على أنه حيوي للتنمية الاقتصادية في مصر.. واليوم، لا يزال نصب تذكاري ضخم للصداقة المصرية ـ السوفيتية، على شكل زهرة لوتس، قائمًا بالقرب من المشروع الضخم، الذي يبلغ عمره قرابة سبعين عامًا في أسوان، جنوب مصر.. وبعد حروبها مع إسرائيل عامي ١٩٦٧ و١٩٧٣، والتي حظيت بدعم ضمني من السوفييت، تحولت مصر في عهد الرئيس أنور السادات، بشكل جذري إلى المعسكر الأمريكي.. أدى ذلك إلى انفتاح اقتصادي، وحصلت على مساعدات عسكرية منتظمة من واشنطن، وأدى ـ على نحو مثير للجدل ـ إلى اتفاقية سلام مع الدولة اليهودية عام ١٩٧٩.. وفي عهد خليفة السادات، الرئيس الراحل، حسني مبارك، ازدادت العلاقات الأمريكية قوة.
●●●
لننتقل سريعًا إلى أكتوبر 2024، عندما استضافت روسيا قمة البريكس في قازان ـ وهي المشاركة الأولى لمصر كعضو كامل العضوية ـ وأشاد بوتين بمصر ووصفها بأنها (شريك موسكو العريق والموثوق).. وخاطب بوتين الرئيس السيسي بـ (صديقي العزيز)، وقال له، إن الجهود جارية لصياغة اتفاقية تجارة حرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بقيادة روسيا والجمهورية العربية.. وعاد الرئيس السيسي إلى روسيا في مايو من هذا العام، ليشارك بوتين في العرض العسكري الذي أقيم في الساحة الحمراء، بمناسبة الذكرى الثمانين للانتصار في الحرب العالمية الثانية.. ثم وصف بوتين مصر بأنها (من أبرز شركاء روسيا في إفريقيا).. وقال، إن التجارة الثنائية ـ مصر أكبر مشترٍ للقمح الروسي ـ ارتفعت بأكثر من 30% في عام 2024، لتصل إلى مستوى قياسي بلغ تسعة مليارات دولار.
ولكن هذا لا يزال ضئيلًا مقارنة بالروابط التجارية لمصر مع الصين، شريكها التجاري الأول، حيث تضم شركات مثل (هواوي تكنولوجيز) ومجموعة (قوانجتشو) للسيارات من بين المستثمرين.. ترى بكين في مصر حضارة عريقة مشابهة في مرحلة تطورها التي وصلت إليها الصين قبل عشرة أو عشرين عامًا، مما يمنحها (كل الأسباب للتعاون)، كما قال هنري وانج هوياو، مؤسس مركز أبحاث الصين والعولمة في بكين، الذي أضاف أن (الصين تقوم بالكثير من العمل هناك ـ أي مصر ـ دون أي شروط، على عكس الدول الغربية).
بالنسبة لمصر اليوم.. لم تتغير موازين القوى العالمية فقط مع ظهور الصين، بل ظهرت ضغوط جديدة على الجبهة الداخلية.. من أبرزها، تزايد سكاني مستمر يعيش على شريط ضيق من الأراضي على ضفاف النهر، في بلدٍ تغطي الصحراء أكثر من 90% منه.. مصر، التي تعاني من شحّ المياه والأراضي، تعتمد أيضًا على الواردات لتوفير الغذاء للسكان، وبعد انخفاض إنتاج الغاز مؤخرًا، لتوفير الكهرباء.. وهي معرضة بشكل خاص للاضطرابات العالمية، وقد شهدت أزمة مالية بمعدل مرة كل عقد تقريبًا.. لكنها تخرج في كل مرة متعافية من آثار الأزمات والاضطرابات العالمية.
●●●
ويلعب التاريخ السياسي الحديث لمصر دورًا أيضًا.. خلال الربيع العربي عام ٢٠١١، عندما اعتصم المتظاهرون في وسط القاهرة لإجبار الرئيس الراحل حسني مبارك على التنحي، بعد ثلاثة عقود في السلطة، انحازت الولايات المتحدة ـ الداعم الرئيسي آنذاك ـ في نهاية المطاف إلى المتظاهرين.. قال ريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية ومقرها بروكسل، إن هذا علَّم حكام مصر، أن (الاعتماد على شريك خارجي واحد يأتي مع سلسلة من المشاكل، بما في ذلك عدم القدرة على الاعتماد على واشنطن لحمايتك من الاضطرابات).
وقد اندلعت الأزمة الاقتصادية الأخيرة، عندما كشف غزو روسيا لأوكرانيا عن مشاكل تتعلق باعتماد مصر على الأموال الساخنة على حساب الاستثمار الأجنبي واسع النطاق، واعتمادها على واردات الحبوب من البحر الأسود.. وبالتالي، ذهبت إلى مشروعات استزراع الصحراء، وإضافة عدة ملايين من الأراضي الجديدة إلى رقعتها الزراعية، وخصوصًا ما كان منها مُنتجًا للقمح والمحاصيل الاستراتيجية.. وفي نهاية المطاف، أدت موجة من الدبلوماسية وإبرام الصفقات إلى تمكين مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، بسبب برنامج دعم الخبز المصمم للحفاظ على السلم الاجتماعي، من إعادة تأمين الشحنات من أوكرانيا وروسيا ومصادر أحدث مثل الهند.
ازداد التفاعل مع اندلاع حرب إسرائيل ضد حماس والجماعات الإيرانية في أنحاء الشرق الأوسط قبل عامين.. ومصر، المجاورة لقطاع غزة الذي مزقته الحرب، استغلت دورها كوسيط محتمل وقائد إقليمي بارز للحصول على حزمة إنقاذ بقيمة سبعة وخمسين مليار دولار من القروض والاستثمارات، بقيادة الإمارات العربية المتحدة وصندوق النقد الدولي.. وأعادت مصر بناء علاقاتها مع تركيا، التي كانت على خلاف معها لنحو سبع سنوات، بسبب دعم أنقرة للإسلاميين.. كما عادت إلى التواصل مع إيران، ويرجح أن ذلك يعود جزئيًا إلى تركيزها على نفوذ الجمهورية الإسلامية على الحوثيين في اليمن، الذين تسببت هجماتهم على سفن الشحن في البحر الأحمر، في انخفاض حاد في عائدات قناة السويس.
حتى مع اختلاف المصالح، تجنّبت القاهرة ـ في أغلب الأحيان ـ الخلافات الدبلوماسية.. ففي الحرب الأهلية في السودان المجاور، تُتّهم الإمارات بدعم ميليشيا الدعم السريع شبه العسكرية ـ وهو ادعاء تنفيه أبو ظبي ـ بينما تربط مصر علاقات وثيقة بالجيش السوداني في الطرف الآخر.. إلا أن أي اختلاف في هذا الشأن، لم يمنع أبوظبي من القيام بأكبر استثمار مباشر في تاريخ مصر، من خلال خطط لتطوير رأس الحكمة الساحلي مطلع عام ٢٠٢٤.. هناك استثناءات.. مصر منخرطة في نزاع مستمر منذ أكثر من عقد مع إثيوبيا، بشأن بناء أكبر سد في إفريقيا على رافد النيل الرئيسي، وهي خطوة تُهدد المصدر شبه الوحيد للمياه العذبة في مصر.. فشلت جهود الوساطة، بما في ذلك جهود إدارة ترامب الأولى، في تهدئة المخاوف، كما جددت الفيضانات في مناطق من مصر والسودان هذا الخريف، الاتهامات لإثيوبيا بسوء الإدارة، مما زاد من حدة التوترات التي يخشى البعض أن تؤدي إلى حرب.
في الوقت الحالي، نجحت استراتيجية مصر إلى حد كبير، وخصوصًا لأن السيناريو الذي تتصارع فيه القوى العالمية بشكل حاد وتضغط جميعها على القاهرة في وقت واحد غير مرجح للغاية، كما يقول فابياني من مجموعة الأزمات الدولية.. وكان الاختبار الأكبر حتى الآن، هو العلاقات مع إسرائيل، وهي قضية شائكة منذ فترة طويلة بين المصريين العاديين، الذين لا يكنون الكثير من الحب لاتفاق السلام، الذي أدى إلى بناء التعاون في مجال الأمن والطاقة ولكنه لم يحظ بحسن نية شعبي.
لقد فاقم دعم ترامب القوي لإسرائيل تداعيات أي نزاع، بما في ذلك الضغط الإسرائيلي على مصر لقبول التهجير الجماعي للفلسطينيين.. انضمت القاهرة إلى قضية جنوب إفريقيا المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، واتهمتها علنًا بارتكاب إبادة جماعية، وهو ما قد يُثير خلافًا في قمة مجموعة العشرين هذا الشهر.. وفي تعليقات مسربة، أشارت إسرائيل إلى أن صفقة جديدة بقيمة خمسة وثلاثين مليار دولار لاستيراد مصر للغاز الطبيعي الإسرائيلي مُهددة بالفشل، ويُقال أن وزير الطاقة الإسرائيلي، يشترط إنسحابًا للجيش المصري من سيناء، للموافقة على توقيع هذه الصفقة، لكن مصر ترفض، ولديها بدائل إخرى، لتبقى المشكلة بين تل أبيب وواشنطن، حفاظًا على مصالح شركة (شيفرون) الأمريكية، المشغلة لحقل الغاز الإسرائيلي.
وفي حديثه في شرم الشيخ في منتصف أكتوبر الماضي، أشار ترامب ـ المعروف بعدم إخفائه لمشاعره ـ إلى أن أي نزاع قد انتهى، وأشاد بمصر باعتبارها شريكًا قويًا.. ومع ذلك، إذا صمد وقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن عدم رغبة مصر في توفير القوات لتعزيز السلام في غزة (قد يصبح مصدر إزعاج)، وفقًا لشينكر من معهد واشنطن.. ستكون المشكلة الأكبر بالنسبة لواشنطن، هي أن أي عملية شراء كبيرة للأسلحة المصرية من الصين أو روسيا، ستؤدي إلى فرض عقوبات من الكونجرس.. قال شينك، (تشكو مصر من أن الولايات المتحدة لا توفر أنظمة أسلحة متطورة.. إذا لجأت القاهرة إلى قوى عظمى أخرى للحصول على هذه المعدات، فسيُعقّد ذلك عملية الموازنة).
وعند العودة إلى المتحف المصري الكبير.. يتوافد المسئولون الأجانب لتفقد تمثال رمسيس الثاني، وقناع توت عنخ آمون، ومئات العجائب القديمة الأخرى.. مما يشير إلى أن القاهرة ليس لديها نقص في الخيارات، بل إن كل الخيارات مُشرعة أمامها، لاختيار ما يُناسب مصالحها ومصالح شعبها العظيم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.













0 تعليق