هل نعيش اللحظة أم نصوّرها؟ بين توثيق الواقع والعيش فيه

لبنان24 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
في زمن الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، أصبحت الكاميرا امتدادًا لأيدينا، لا تفارقنا في أي مناسبة أو رحلة أو لقاء. فكل لحظة جميلة تستحق، في نظر كثيرين، أن تُوثَّق، وأن تُعرض على الآخرين. لكن السؤال الذي بدأنا نطرحه هو: هل ما زلنا نعيش اللحظة فعلاً، أم أننا أصبحنا نعيش لنوثّقها؟

Advertisement


قبل سنوات قليلة، كانت اللحظات تُحفظ في الذاكرة، لا في ذاكرة الهاتف. اليوم تغيّر الأمر: حفلات، أعياد ميلاد، غروب الشمس، حتى الطعام، جميعها أصبحت مادة للمشاركة. تقول نغم هزيمة، استاذة في علم الاجتماع: "جيل اليوم يعيش حالة من الانفصال عن الواقع المباشر. فبدل أن يعيش في صلب الحدث، بات يراقبه من خلف الشاشة التي يستخدمها لتوثيقه. هذا يُحدث نوعًا من المسافة النفسية بين الإنسان والتجربة نفسها."

وتضيف أن هذا السلوك لم يأتِ من فراغ، بل من حاجة نفسية للتقدير والاعتراف: "الناس تنشر صورها لتقول للعالم: أنا هنا، أنا أعيش، حياتي مليئة بالأحداث. المشكلة أن هذا السلوك، وإن بدا طبيعيًا، يحوّل التجربة الشخصية إلى عرضٍ للآخرين بدل أن تبقى تجربةً داخلية".

يرى بعض علماء النفس أن التوثيق المفرط يُضعف الحضور الذهني. فالعقل حين ينشغل بالتقاط الصورة المثالية، يفقد تركيزه على المشهد الحقيقي. الكاميرا باتت تتحكم في سلوك الناس، فبدل أن يُحرّكهم الإحساس بالجمال، يُحرّكهم القلق من تفويت فرصة النشر. إنها آلية جديدة للعيش عبر تقدير واعجاب الآخرين لا لأنفسنا.

الدراسات الحديثة تؤكد أن الأشخاص الذين يكثرون من تصوير لحظاتهم يستمتعون أقلّ بها مقارنة بمن يكتفون بالعيش فيها دون تصوير، لأنهم يكونون أقلّ انتباهاً للتفاصيل الحسية، كالروائح والأصوات والمشاعر اللحظية، التي تجعل التجربة أكثر واقعية.

لكنّ الناس منقسمون في آرائهم، البعض يرى أن التصوير لا ينتقص من عيش اللحظة، بل يضيف إليها معنى جديدًا. تقول رباب، ٢٦ عامًا، وهي ممن يحبون توثيق لحظاتهم: "الصور تساعدني على تذكّر اللحظات الحلوة. قد لا أعيشها بالقوة نفسها، لكن عندما أنظر اليها لاحقًا أشعر بالحنين والسعادة".

بينما يختلف معها كريم، ٣٥ عامًا، موظف في شركة تسويق، فيقول: "أشعر أحيانًا أن التصوير سرق مني اللحظة، مرة كنت اجلس على شاطئ البحر، بدل أن أستمتع بلحظة غروب الشمس، حاولت اطوال الوقت ان ألتقط فيديو مثالي، اكتشفت لاحقًا ان المشهد الحقيقي كان أجمل بكثير من ذلك المسجل على ذاكرة الهاتف".

يرى كثيرون أن الحياة قبل مواقع التواصل الاجتماعي كانت أكثر عفوية. لم يكن أحد يفكر بكيفية ظهوره في الصورة، ولا بزاوية الكاميرا، ولا بعدد الإعجابات التي سيحصل عليها. تقول الكاتبة نادين سابا في مقالة نُشرت مؤخرًا: "كنا نعيش لأنفسنا، لا من أجل المتابعين. كانت اللحظات جميلة لأنها صادقة، لا لأنها قابلة للمشاركة".

لكنّ آخرين يرون أن هذا الحنين مبالغ فيه، وأن التوثيق ليس عدوًا للحياة، بل وسيلة لحفظها. فكما كانت الأجيال القديمة تكتب اليوميات وتحتفظ بالصور الورقية، نحن اليوم نوثّق رقمياً. الفرق فقط في الوسيلة، لا في الجوهر.

 ربما تكمن الحقيقة في مكانٍ وسط. فالتصوير بحدّ ذاته ليس مشكلة، لكن الإفراط فيه يُفقدنا جوهر اللحظة. يشبّه بعض الخبراء الأمر بتناول السكر: قليل منه يمنح الطاقة، لكن الإكثار يسبب الضرر. كذلك التوثيق، حين يصبح هاجسًا، يحرمنا من التفاعل الحقيقي مع اللحظة.

ينصح الخبراء بما يُعرف بـ "قاعدة الدقيقة الواحدة": استمتع أولاً بالمشهد لدقيقة كاملة، عش تفاصيله، ثم التقط الصورة إن رغبت. بهذه الطريقة لا تخسر التجربة، ولا الذكرى.

لعلّ السؤال الأهم ليس: "هل نُصوّر أم لا؟"، بل: "لمن نصوّر؟". إن كنا نصوّر لأنفسنا، لنحتفظ بذكرى صادقة، فلا بأس. أما إن كنا نصوّر فقط لعرض حياتنا على الآخرين، فربما علينا أن نعيد النظر في نوايانا.

فاللحظة التي لا تُعاش، لا يمكن أن يُعيدها أي فيديو أو صورة. والكاميرا، مهما كانت دقتها عالية، لن تلتقط الإحساس الحقيقي الذي يمرّ في داخلنا عندما نعيش بصدق، بعيدًا عن عدسات الهواتف.

في زمنٍ باتت فيه الذكريات رقمية، ربما أجمل ما يمكن أن نفعله هو أن نمنح أنفسنا لحظات لا تُصوَّر، بل تُحسّ وتُحفظ في القلب.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق