تحل اليوم ذكرى رحيل الأديب الكبير طه حسين، الذي غادر عالمنا في 28 أكتوبر 1973، تاركًا وراءه إرثًا فكريًا وأدبيًا لا يزال حاضرًا في وجدان العرب، لم يكن عميد الأدب العربي مجرد كاتب أو ناقد، بل مشروع فكر كامل جمع بين الجرأة العقلية والصدق الإنساني، بين الألم والإصرار، وبين الإعاقة الجسدية والنور الداخلي الذي جعله أحد أعمدة النهضة الثقافية في القرن العشرين.

"الأيام".. عمل درامي خالد جسد السيرة في صورة إنسانية
من أبرز ما رسّخ صورة طه حسين في ذاكرة الأجيال، مسلسل "الأيام" الذي أنتج عام 1979 وجسد فيه الفنان أحمد زكي شخصية العميد ببراعة استثنائية، أخرجه يحيى العلمي وشارك في بطولته نخبة من كبار الفنانين، منهم محمود المليجي، أمينة رزق، حمدي غيث، صفية العمري، يحيى شاهين، وكتب أشعاره سيد حجاب ولحن موسيقاه عمار الشريعي، بينما أدى علي الحجار الأغاني التي صارت جزءًا من ذاكرة المشاهد المصري والعربي.

أحمد زكي بين التحدي والالتزام في تجسيد شخصية العميد
كواليس اختيار أحمد زكي للدور لم تكن سهلة، فقد عرضت الشخصية قبل ذلك على نور الشريف وعزت العلايلي، لكن لجنة الإنتاج رأت في زكي وجهًا جديدًا قادرًا على تجسيد العميد بروح واقعية، رفض زكي أن يستلهم الأداء من أي عمل سابق، قائلًا: "هعمل المسلسل من دماغي"، وبدأ رحلة بحث عميقة في شخصية طه حسين ليخرج أداءً مفعمًا بالحقيقة والإحساس.

كواليس من خلف الكاميرا.. مواقف ومفاجآت أثناء التصوير
قبل بدء التصوير، التقى أحمد زكي بالدكتور محمد حسن الزيات، أحد المقربين من طه حسين، الذي رفض في البداية الفكرة قائلًا: "ده اللي هيعمل طه حسين؟" لكن أداء زكي جعله يغير رأيه لاحقًا، أراد زكي أن يتعرف على طه حسين الإنسان قبل المفكر فسأل الزيات: "قولّي إزاي بيضحك؟ بيعيط إزاي؟ احكيلي نكتة قالها زمان" كانت تلك التفاصيل الإنسانية مفتاحًا لنجاح الأداء الذي خلد المسلسل في الذاكرة.

الإعاقة لم تكن عائقًا.. بل دافعًا للمعرفة والإصرار
ولد طه حسين فاقد البصر، لكنه لم يتعامل مع إعاقته كقدر يجب الاستسلام له، بل كميدان للتحدي، في سيرته الذاتية «الأيام»، يروي كيف تحولت ظلمة البصر إلى نور البصيرة، وكيف قاده الشغف بالعلم إلى الأزهر ثم إلى السوربون، ليصبح واحدًا من رموز الثقافة العالمي، مثلت تجربته نموذجًا في تحويل الألم إلى طاقة معرفية لا تهدأ.

طه حسين ومشروع التعليم كقضية وطنية
كان التعليم قضية عمره، فرأى فيه طريق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، في وزارة المعارف (التعليم) دافع عن مجانية التعليم قائلًا إن "التعليم كالماء والهواء"، وهو الحق الذي يجب أن يتساوى فيه الجميع، وقدم خلال فترة عمله رؤية متقدمة لتطوير المدارس والجامعات، داعيًا لتحديث المناهج وتوفير أدوات التعليم لجميع الطبقات.

“مستقبل الثقافة في مصر”.. رؤية تنويرية سبقت عصرها
في كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر»، وضع طه حسين خريطة فكرية للنهوض بالمجتمع المصري، أكد أن تطوير التعليم لا يتم إلا عبر الاهتمام بالمعلم، وتيسير اللغة العربية لتكون أداة للفكر لا عائقًا له، وربط التعليم بالنهضة الأوروبية دون أن تفقد مصر هويتها، كما دعا إلى تعميم مجانية التعليم وتوفير الغذاء والكتب والمعدات لكل طالب لضمان تكافؤ الفرص.

حرية العقل.. جوهر مشروع طه حسين الفكري
لم يكن طه حسين باحثًا عن الجدل من أجل الشهرة، بل عن الحقيقة من أجل المعرفة في كتابه «في الشعر الجاهلي» فتح بابًا واسعًا للنقاش حول المنهج العلمي في دراسة التراث، مؤكدًا أن النقد الحر هو الطريق الوحيد لبناء عقل عربي جديد. كانت حرية الفكر لديه عقيدة راسخة لا تنفصل عن مسؤوليته الأدبية والإنسانية.

بناء الذائقة العامة.. الأدب أداة للنهضة
رأى طه حسين أن الثقافة لا تقوم فقط على المعلومات، بل على الذوق الرفيع. في كتبه «حديث الأربعاء» و«مع المتنبي» و«من حديث الشعر والنثر» كان يدرب القارئ على تذوق الأدب وتقدير الجمال، مؤمنًا بأن الأمة التي تتذوق الجمال قادرة على بناء حضارة متوازنة بين العقل والوجدان.

طه حسين في ميزان الجدل والنقد
أثارت مواقفه الفكرية والسياسية جدلًا واسعًا، لكنه ظل وفيا لضميره، دافع عن استقلال الجامعة، ورفض منح شهادات فخرية لمن لا يستحق، ما تسبب في إقالته أحيانًا، لكنه لم يتراجع عن مبادئه، كان يرى أن المثقف يجب أن يكون ضمير أمته لا بوقًا للسلطة أو الجمهور.

إرث لا يمحى.. حضور طه حسين في الأدب والدراما
رحل الجسد وبقي الأثر، لا تزال كتبه تدرس وتناقش، وأفكاره تلهم المبدعين في الأدب والسينما والتعليم. لم يكن طه حسين كاتبًا فحسب، بل صاحب مشروع وطني وثقافي متكامل هدفه تحرير الإنسان من الجهل والظلام.
وفي كل ذكرى لرحيله، يتجدد السؤال الذي تركه لنا: هل نستطيع أن نصنع نهضة جديدة بالعقل الحر الذي آمن به طه حسين.؟

















0 تعليق