شهد قطاع غزة اليوم واقعة مؤلمة تُجسّد عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، بعدما أدى الأهالي والوجهاء والأطباء أمام مستشفى ناصر الطبي في خان يونس، صلاة الجنازة على أرواح 54 جثمانًا مجهولين لم يتم التعرف عليهم بعد عامين من احتجازهم لدى الاحتلال الإسرائيلي.
تم الافراج عن تلك الجثامين خلال الايام الماضية ضمن صفقة تبادل الجثث.
دفن الجثامين بمقبرة جماعية بدير البلح
وجرى بعدها نقلهم لدفنهم في مقبرة جماعية بدير البلح، لتكون الأرض وحدها الشاهدة على وجعٍ مضاعف وجع الفقد، ووجع المجهول.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة أنها قامت بدفن عشرات الجثامين التي تسلّمتها من الجانب الإسرائيلي عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لكنّ هذه الجثامين وصلت دون أسماء أو بيانات تعريفية، إذ وُضعت عليها أرقام فقط للدلالة، فيما تعذّر على ذوي المفقودين التعرف على أصحابها بسبب التشويه أو غياب الوثائق.
وقد أوضحت مصادر طبية أن بعض هذه الجثث أظهرت علامات تعذيب أو حرق أو تقييد، ما أثار شكوكًا جدّية حول الظروف التي قضى فيها أصحابها.
وفي هذا السياق، قال الدكتور جهاد أبو لحية أستاذ القانون والنظم السياسية، إن هذه الحادثة تأتي ضمن سلسلة من الوقائع المتكررة التي وثّقتها منظمات دولية خلال الأشهر الماضية، حيث كانت السلطات الإسرائيلية قد أعادت في أكثر من مناسبة جثامين لفلسطينيين دون أن ترافقها معلومات كافية عن الهوية أو ظروف الوفاة، ففي عام 2024 مثلًا، تم تسليم 88 جثة داخل حاوية مغلقة دون أي بيانات واضحة، ما دفع وزارة الصحة في غزة إلى رفض استلامها إلى حين الحصول على المعلومات المطلوبة.
وأضاف أبو لحية في تصريحات خاصة للـ"الدستور"، أنه من الناحية القانونية، تُعتبر هذه الممارسات انتهاكًا صريحًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، الذي يفرض على أطراف النزاع التزامات واضحة تجاه معاملة الجثث.
وتابع أبو لحية: "إنه بموجب اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، يتعيّن على الأطراف المتحاربة أن تضمن الاحترام الكامل لكرامة الأشخاص الأحياء والأموات، وأن تعمل على تسجيل الوفيات، وحفظ هوية الجثامين، وإبلاغ عائلاتهم بمصيرهم".
وقال أبو لحية إن تسليم جثث دون بيانات، أو دفنها في مقابر جماعية مرقّمة بلا أسماء، يُعدّ إخلالًا بمبدأ الكرامة الإنسانية، كما أنه ينتهك الالتزامات المتعلقة بحق العائلات في معرفة مصير أحبائها، وهو حقّ معترف به في كل من القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وأكد أبو لحية أن قوات الاحتلال الإسرائيلي تتحمل مسؤولية قانونية مباشرة في حماية المدنيين وضمان التعامل الإنساني مع القتلى والمفقودين، مضيفًا أن عدم تزويد الجانب الفلسطيني بالمعلومات الكافية عن هوية الجثامين، أو ظروف احتجازهم ووفاتهم، يمكن أن يشكّل صورة من صور الاختفاء القسري، وهي ممارسة محرّمة بموجب القانون الدولي، وقد ترتقي في بعض الحالات إلى جريمة ضد الإنسانية إذا كانت ضمن سياسة ممنهجة.
وتابع: "كذلك فإن دفن الجثث بلا أسماء، بعد أن رفضت إسرائيل تسليم البيانات المطلوبة، يُعدّ انتهاكًا لحقّ العائلات في المعرفة، ولواجب الدولة المعنية بتوثيق الجثامين وضمان دفنها بطريقة تحفظ كرامة الموتى".
وأكد أبو لحية أن تسليم جثث تحمل آثار تعذيب أو تقييد أو تشويه، دون تحقيق أو توثيق رسمي، يرقى إلى مستوى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، وفقًا لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وقال السياسي الفلسطيني إن عمليات القتل أو الإخفاء أو التعذيب تمت على نحو منهجي أو واسع النطاق ضد المدنيين الفلسطينيين، وهذا يفتح الباب أمام ملاحقة المسؤولين أمام القضاء الدولي أو أمام محاكم وطنية استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، وأن دفن الجثث دون أسماء لا يمس فقط بحق العائلات، بل يخلق جرحًا مجتمعيًا عميقًا ويعطل مسار العدالة الانتقالية. فالتعرّف على الجثث والاعتراف الرسمي بالضحايا هو شرط أساسي للمصالحة المستقبلية ولتوثيق الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني. كما أن استمرار دفن الفلسطينيين بالأرقام يُكرّس حالة الإخفاء القسري الجماعي، ويحوّل الموتى إلى مجرد أرقام في صراع طال أمده، وهو ما وصفته منظمات الإغاثة الدولية بأنه تحويل غزة إلى مقبرة صامتة.
وأكد ضرورة فتح تحقيق دولي مستقل بإشراف الأمم المتحدة ومكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، يهدف إلى جمع الأدلة حول ظروف استشهاد هؤلاء الشهداء، موضحًا أنه ينبغي أن تُمنح العائلات حق الوصول إلى المعلومات والصور، وأن تُوفَّر لهم الإمكانات التقنية – من تحليل الحمض النووي إلى الطب الشرعي – لتحديد هويات أحبائهم، كما يجب على اللجنة الدولية للصليب الأحمر ضمان أن تكون عمليات التسليم المستقبلية مصحوبة بوثائق كاملة تشمل هوية الضحية ومكان وزمن الوفاة وأسبابها.
وأشار إلى أنه بجانب التحقيق، لا بد من اتخاذ تدابير عاجلة لضمان حفظ الأدلة وتوثيق كل عملية دفن، بما في ذلك تحديد مواقع المقابر بالأرقام والإحداثيات الدقيقة، تمهيدًا لأي مراجعة مستقبلية أو إجراءات عدلية. ويُستحسن أن تشرف فرق دولية مختصة على ذلك لضمان الشفافية، وحماية الحق القانوني للعائلات في زيارة قبور أبنائهم أو المطالبة بإعادة فحصها عند الحاجة.
وتابع: أنّ ما حدث اليوم في غزة لا يمكن النظر إليه كواقعة معزولة، بل هو امتداد لمسار طويل من الانتهاكات التي تُهدّد جوهر القانون الدولي الإنساني. فحين تُدفن الجثث الفلسطينية بلا أسماء ولا هوية، فإن ما يُدفن معها هو أيضًا جزء من الذاكرة والعدالة والحق في الحياة والكرامة، كما أنّ المجتمع الدولي مدعوّ اليوم إلى التحرّك الفوري، ليس فقط من أجل التحقيق والمساءلة، بل من أجل منع تكرار مثل هذه المآسي التي تُجرّد الإنسان من اسمه، ومن حتى حقه الأخير في أن يُدفن بكرامة.
0 تعليق