المتحف المصري الكبير تحفة معمارية عالمية تجمع بين عبق الحضارة وروح الحاضر

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

على بعد خطوات من هضبة الأهرامات، يقف المتحف المصري الكبير شامخًا كأنه امتداد طبيعي للأهرامات الثلاثة الخالدة، وشاهد على عبقرية معمارية وهندسية جمعت بين عبق الماضي وروح الحاضر. هذا الصرح ليس مجرد مبنى أثري، بل تحفة معمارية عالمية تروي قصة حضارة أدهشت البشرية، وحصدت الإعجاب على مر العصور، لتُعرض اليوم في أبهى صورها من خلال أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة.

بداية الحلم

بدأت قصة المتحف في عام 2002، عندما أطلقت مصر مسابقة معمارية دولية لتصميمه، شارك فيها أكثر من 1500 مكتب هندسي من 83 دولة حول العالم، في واحدة من أضخم المسابقات المعمارية في التاريخ الحديث. وبعد منافسة شرسة، فاز التصميم المقدم من المكتب الأيرلندي – الياباني المشترك “Heneghan Peng Architects” لما حمله من رؤية تجمع بين الأصالة المصرية والحداثة المعمارية.

جاء التصميم ليعكس الانتقال بين زمنين، من عمق الحضارة القديمة إلى ملامح الحاضر، ومن الرمال إلى الحجر، ومن الغموض إلى النور. وتم اختيار موقعه بعناية ليطل مباشرة على الأهرامات الثلاثة، في تكوين بصري فريد يُظهر التلاحم بين الماضي والمستقبل.

واجهة تلتقط الضوء

من أبرز عناصر المتحف تفردًا واجهته الحجرية الضخمة المصنوعة من الحجر الجيري الوردي بارتفاع 50 مترًا وطول يزيد على 700 متر. صُممت الواجهة بزوايا هندسية متدرجة تحاكي كسوة الأهرامات نفسها، لكن تميّزها الحقيقي يكمن في كونها جدارًا يتنفس الضوء، حيث تم تزويدها بتقنيات خاصة تتحكم في انعكاس أشعة الشمس، فيتغير لونها بتغير ساعات النهار، لتمنح المتحف حيوية مدهشة.

بهو ملكي واستقبال مهيب

في الداخل، يرحب بالزائر بهو شاهق الارتفاع يتوسطه تمثال الملك رمسيس الثاني بارتفاع يتجاوز 11 مترًا، في استقبال ملكي يجسد عظمة الحضارة المصرية. على جانبي البهو تمتد السلالم الكبرى المؤدية إلى قاعات العرض الدائمة، في رحلة معمارية رمزية تحاكي الصعود إلى معابد الملوك.

فلسفة بيئية ومعمار مستدام

لم يكن المتحف مجرد مبنى جمالي، بل صُمم بفلسفة بيئية دقيقة تراعي اتجاه الرياح ودرجات الحرارة، بما يقلل الاعتماد على الطاقة الصناعية. استخدم المصممون الزجاج العاكس والأنظمة الذكية للحفاظ على درجات الحرارة المناسبة للقطع الأثرية. كما زُوّد المبنى بأحدث تقنيات العزل ضد الزلازل، ليصبح أول مبنى ثقافي في مصر يحصل على شهادة الاستدامة البيئية العالمية (LEED).

تجربة معمارية تستحضر التاريخ

عند دخول المتحف، لا تواجه الزائر جدرانًا صلبة، بل ينساب تدريجيًا عبر ممر منحدر يوحي بالرحلة إلى أعماق التاريخ، لينتقل إلى قلب الذاكرة المصرية الممتدة منذ آلاف السنين. ترتيب القاعات لم يأتِ عشوائيًا، بل وفق رؤية بصرية دقيقة تبدأ بفكرة الخلق والبعث في العقيدة المصرية القديمة، مرورًا بالعصر الذهبي لملوك الدولة الحديثة، وصولًا إلى قاعة توت عنخ آمون التي تحتضن أكثر من 5 آلاف قطعة تُعرض لأول مرة في مكان واحد.

الضوء جزء من التصميم

من أسرار هذا الصرح أن الضوء الطبيعي ليس مجرد وسيلة للإضاءة، بل عنصر معماري أصيل. فبفضل فتحات زجاجية دقيقة ومشربيات حديثة، يتسلل الضوء الذهبي بين التماثيل والمعروضات محاكيًا طقوس الفراعنة الذين اعتبروا الشمس رمزًا للحياة والخلود. أما في الليل، فتتحول الواجهة إلى لوحة ضوئية عملاقة تُطل على الأهرامات في مشهد أسطوري يعيد للأذهان شعائر المعابد القديمة.

عرض ذكي وتجربة تفاعلية

لا يكتفي المتحف بعرض الآثار، بل يتيح للزائر التفاعل معها من خلال أنظمة العرض الذكي والواقع المعزز. كل قطعة أثرية محاطة بإضاءة وصوت مدروس بعناية، يمنح الزائر شعورًا بأنه يعيش في زمن الفراعنة. وقد صُممت القاعات بطريقة تضمن انسيابية الحركة وتجنب الازدحام، مع توفير مسارات خاصة للأطفال وذوي الهمم.

صرح يليق بعظمة الحضارة

يقف المتحف اليوم على مساحة تقارب نصف مليون متر مربع، أي ما يعادل مدينة صغيرة، ويضم ساحات خضراء ومناطق استراحة ومركزًا للترميم يُعد الأكبر من نوعه في الشرق الأوسط. أراد المعماريون أن يكون المبنى نفسه رمزًا للخلود الحديث، مبنى يعيش لقرون تمامًا كما صمدت الآثار التي يعرضها لآلاف السنين.

المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان لعرض القطع الأثرية، بل بيان معماري وثقافي عالمي يقول إن مصر لا تزال قادرة على صناعة الدهشة. فعلى سفح الأهرامات، اتحد الفن مع العلم، والضوء مع الحجر، ليولد مبنى يجسد الحضارة المصرية لا ليعرضها فقط.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق