من أرض السلام الحقيقية سيناء..فى مدينة شرم الشيخ المصرية وقف رؤساء وملوك وقادة دول أكثر من نصف كوكب الأرض ينظرون كيف تبنى مصرُ قواعد المجد والشرف والحق وحدها..
كيف أوقفت الحرب التى كان يمكنها أن تتحول لحرب عالمية، وكيف منحت السلام، وكيف جعلت من رؤيتها الشريفة حقيقة، وكيف غيرت دفة الأحداث وتاريخ المنطقة وأبقت لشعبٍ - غدر به بعض بنى جلدته - على أرضه.
(١)
لم يكن مشهدا عاديا.. جلست شعوب العالم أمام الشاشات ترقب فى دهشة وفرح هذا الحدث الاستثنائى. كان مشهدا متوٌَجا لطريق شاق خاضته مصر فى أدق وأوعر مراحله بمفردها تماما. كان تتويجا سماويا لمصر وتوثيقا منصفا للتاريخ. كل لقطة وكل مشهد وكل تفصيلة من يوم امتد لما يزيد عن عشر ساعات تستحق أن تكون حدثا بحد ذاتها. الذين بادروا ليحظوا بشرف الوجود وشهادة اللحظة التاريخية، والذين تواروا خجلا من الإقرار بحقيقة قوة وحجم مصر، والذين فرحوا بصدقٍ لحقن الدماء، والذين تظاهروا بالود، والذين كادوا يموتون كمدا من ضغائن وشرور أنفسهم.. كل هؤلاء كتبت عليهم الأقدار أن يشهدوا لمصر – حبا صادقا لها أو رغما عنهم – بمجدها وشرفها.
مقعد مصر على المنصة رأسا برأس بجوار رئيس الدولة الأقوى قضى أخيرا على أكذوبة أن مصر مجرد وسيط شأنها شأن الآخرين، وقدمها بما يليق بها وبما بذلته وتبذله من جهد. تصدر الرئيس المصرى المنصة بحق الدور والنجاح فى فرض الرؤية، وليس بحق الاستضافة المكانية.
(٢)
كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى تستحق أن تكون هى درة هذا المشهد ودرة الشرف المصرى. كل من أتيحت لهم الكلمة تحدثوا عن دور الرئيس الامريكى وشكروه وجاملوه واكتفوا بذلك إلا مصر ورئيسها. فلقد تحدث رئيس مصر حديث الشرفاء الأقوياء. تحدث وأكد على رؤية مصر بحق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته. لقد أشهد السيسى العالم كله على تشبث مصر بالدفاع عن هذا الحق. لا سلام حقيقى دون حل الدولتين. شرح موقف مصر ورؤيتها بوضوح فيما يتعلق بمصطلح الشرق الأوسط الجديد بأنه الشرق الذى تنعم شعوبه بالسلام والتعايش وحق شعوبه فى الأمان وحسن الجوار وأن الشعب الفلسطينى ليس مستثنى من تلك الشعوب فى التمتع بهذه الحقوق. أوضحت مصر على لسان رئيسها أمام العالم أن هذا الاتفاق لم يكن فقط من أجل إطلاق سراح رهائن الكيان أحياء أو اموات مقابل إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين ووقف الإبادة. لكن يجب أن يدشن هذا الاتفاق لمشروع حقيقى بتحقيق سلام عادل دائم لن يكون سوى بإقامة دولة فلسطينية يحيا على أرضها شعب فلسطين بجوار شعب إسرائيل. أى أن الذين شهدوا توقيع الاتفاق أصبحوا شهودا وضامنين للمضى قدما لتحقيق رؤية مصر الكاملة.
ثم فاجأ الرئيس السيسى جميع من حضر وجميع من تابع من القادة والشعوب بطرق قضية أسلحة الدمار الشامل وأن الحق والعدل أن يصبح الشرق الأوسط خاليا من تلك الأسلحة وهو يقصد بذلك الكيان الصهيونى دون مواربة. فمصر من الدول ذات الموقف المبدأى الثابت فى نزع أسلحة الدمار الشامل من جميع دول المنطقة. وليس من العدل أن تُحرم كل دول المنطقة من حق امتلاك تلك الأسلحة بينما يتم استثناء دولة الكيان.
لم تخضع مصر لابتزازات الكيان فى الأسابيع الماضية حين وجه السيسى فى آخر مؤتمر قمة عربى فى بغداد حديثه لمواطنى الكيان بأنهم لن ينعموا بالسلام الحقيقى بالحرب والآلة العسكرية والإعتداء وأنهم لن ينعموا بهذا السلام سوى بحصول الشعب الفلسطينى على حقوقه وتقبل الكيان للتعايش السلمى دون أوهام التمدد على حساب الشعوب العربية. بعد حديث السيسى وقتها شنت الآلة الإعلامية الصهيونية موجة هجوم ضد مصر وقيادتها واتهموا السيسى بأنه يهدد مواطنى الكيان. فإذا بالرئيس السيسى يعيد توجيه حديثه – امام ترامب وباقى قادة الدول الكبرى – لشعب الكيان ويكرر رؤيته بوضوح. مصر لا تخضع لابتزاز وتصوغ مواقفها على أرض صلبة راسخة. مصر لا تهدد أحدا لكنها تنطق بالحق الذى لن يكون هناك سواه طريقا فى هذه المنطقة. لا سلام دون عدل يحقق لجميع شعوب المنطقة حقا متساويا فى الحياة والأمان والتنمية. كرر السيسى حديثه لشعب الكيان لتكون الرسالة واضحة معلنة فى وجود كل هذه الكوكبة من القادة.
(٣)
من جملة ما حدث وربحته مصرُ كان شهادات رسمية موثقة من الضيف الأهم فى حق مصر وقيادتها. شهادات تنسف كل ما تم توجيهه من دعايات سلبية وموجات تشكيك عبر أكثر من عقدٍ ضد ما تقوم به تلك القيادة المصرية. تحدث ترامب عن قوة مصر كما تحدث عن الأمان الذى يفوق مثيله فى الولايات المتحدة. شهاداتٌ تحقق مردودا يفوق ما يمكن أن تحققه دعايات مدفوعة باهظة الثمن. شهاداتٌ تعنى ثقة دولية فى استقرار مصر واقتصادها وتُتَرجم تلك الثقة بشكل فورى فى صورة إقبال على الاستثمار فى مصر ورواج سياحى ضخم.
حديث ترامب عن الطائرات العسكرية المصرية لا يعنى سوى أن مصر دولة بالمفهوم الصحيح للدولة لا كما قال أحد رجاله منذ أيام قليلة عن دول أخرى بالمنطقة. حديث ترامب عن انخفاض معدل الجريمة فى مصر هو شهادة توثق لحضارة مصر. حديثه عن شعوره بقوة مصر كدولة يعنى أن القيادة المصرية نجحت بالفعل فى الانتقال بمصر من مرحلة الاضطراب منذ عشر سنوات إلى مرحلة الاستقرار والانطلاق. لم تدفع مصر أموالا لكى تحصل على شهادات رسمية علنية، لكنها دفعت عرقا وجهدا شريفا وتحديا قويا لظروف سياسية لم تقو على مواجهة مثلها غالبية دول الشرق الأوسط.
(٤)
قرار مصر بمنح ترامب قلادة النيل هو قرار حضارى تاريخى غير مسبوق. مدلول المسمى (النيل) لا يخطئه عقل. انتشاء ترامب ومواطنيه فى وسائل الإعلام بالقلادة يمثل قيمة مصر الحضارية. يمكن لهذا القرار الصائب أن يكون تدشينا أول لجائزة مصرية حضارية يتم منحها كل عام أو عامين لشخصيات دولية كبرى تسهم بإنجازات كبرى فاصلة فى نشر قيم السلام والتعايش فى العالم. يمكن أن نقفز بالحلم إلى أن تتشعب الجائزة لتشمل العلوم والفنون ويتم تكوين هيئة دولية مصرية رسمية لمنح الجائزة. مصر تستحق أن تمنح قبسا من حضارتها لمن يستحق من قادة وعلماء العالم. أليست هى من منحت العالمَ تلك العلوم والفنون؟ أليست هى من خطت أولى خطوات السلام فى الشرق الأوسط فى التاريخ المعاصر؟! وأليست هى من اختارت السلام صفة لشخصيتها التاريخية وسمتا لحضارتها الأعظم فى الكون؟!
(٥)
هذه اللوثة وهذا الهياج اللذان أصاب كل خصومها منذ أن شاهدوا انتصارها يوكدان هذا النصر ويؤكدان أنها الوحيدة القادرة على منحه لشعوب المنطقة. فشلوا فى محاولة خداع العالم فراحوا يفتشون فى المشهد عن أى لقطة هنا أو هناك لرجم مصر. كانت محاولاتهم تثير الشفقة. فمرة يتحدثون عن شعار الولايات المتحدة على المنصة التى ألقى ترامب عليها خطابه، ومرة يحاولون الكذب السافر بنسبة ما حدث لقوة الولايات المتحدة!
ما يثير الإعجاب هو ما قام به المصريون عبر صفحاتهم الشخصية فى صد تلك الترهات. لم تمضِ دقائق على نشر الأكذوبة حتى يفندها المصريون بالوثائق الأرشيفية. أتوا بصور لكل خطابات الرؤساء الأمريكيين السابقين فى دول كثيرة منها دول بالمنطقة ونفس الشعار أمام كل رئيس. أتى المصريون بالحقيقة أن هذا ليس إلا إجراء روتينى عادى لا علاقة له بنقص سيادة الدولة المضيفة.
أما ما يتعلق بمن هو صاحب الفضل الأول فيما حدث فلقد قام المصريون بإعادة سرد ما حدث منذ اليوم الأول للعدوان وما قامت به مصر من إفشال مخطط التهجير حتى نجاحها فى تغيير الإدارة المصرية لموقفها من القضية برمتها.
مُنِع عباس من حضور مؤتمر حل الدولتين فى نيويورك فأتت به مصر لشرم الشيخ!
طلب ترامب من مصر استقبال سكان غزة وتسليمه قطاع غزة فجاءت به مصر إلى شرم الشيخ لينكر علانية علاقته بمشروع ريفيرا غزة وليوافق على طلب السيسى منه رعاية مؤتمر إعادة إعمار القطاع!
رفض السيسى الذهاب لواشنطن أو الحديث عن أى أفكار لطرد السكان من أرضهم فجاء ترامب لمصر معلنا أنه لا لخروج السكان!
هذه الحقائق أصابت الجماعة الصهيو إخوانية وقطعانها بالجنون وأصبح خونتها خارج مصر عبئا ثقيلا على من استعملهم، وقريبا جدا سيكون الخلاص منهم وإلقاؤهم فى سلة مهملات التاريخ ليلحقوا بكل من سبقهم من الخونة!
منذ أسابيع قليلة جاهروا بأمنياتهم بالاعتداء الصهيونى على أرض مصر، فلم يستطع رئيس حكومة الكيان الحضور لمصر حتى فى رعاية ترامب!
منذ أسابيع شنوا هجوما على سفارات مصر بالخارج، فأتى كل رؤساء العالم يصطفون على أرض مصر يستمعون لرئيسها ويقفون صفا خلفه أو يجلسون أمامه وهو يجلس بجوار ترامب يوقع على وثيقة انتصار مصر وحقن دماء أهل فلسطين!
منذ أيام قليلة سقط البعض فى فخ الاستسلام لأبواق الدعاية الصهيونية بأن السابع من أكتوبر سيشهد تنفيذ التهجير بالقوة وأن مصر لن تقوَ على مواجهته فإذا بمصر تقضى على تلك الأوهام بالضربة القاضية.
صحفى مصرى كبير سقط وتنبأ بذلك مدعيا أن لديه من المعلومات ما يؤكد عزم الكيان القيام بعمليات كبرى تمهد لتنفيذ التهجير فاثبتت مصر خواء رؤيته وأوهامه!
(٦)
وقف الخلق ينظرون جميعا.. كيف أبنى قواعد المجد وحدى..
وكأن شاعر النيل كان يقرأ الطالع. وكأنه شهد هذا المشهد معنا ثم كتب رائعته. نعم لقد بنت مصر بمفردها قواعد مجد وشرف الشرق. وقفت بمفردها بينما سقط الباقون فى اختبارات الفرز القاسية الأولى. مرة أخرى تمنح مصر قبلة الحياة للقضية الفلسطينية وتنتشلها من مرحلة انتحار واحتضار. مرة اخرى تمنح مصر دول المنطقة فرصة ذهبية جديدة للإبقاء على شرف تلك الدول.
حددت مصر الأهداف الكبرى التى يجب على تلك الدول التمسك بتحقيقها. منحت مصر فجرا جديدا لدول الشرق بعد أن كانت هذه الدول على وشك السقوط فى ظلام حالك. لقد أهينت دولٌ وقُضى على جماعات كانت سببا فى تيه الشرق. لكن هذه الجماعات وقبل سقوطها ساهمت فى إجهاد دولها وإضعافها وتقديمها فرائس سهلة.
لكن مصر منحت شعوب هذه الدول بارقة أمل وحياة وبداية جديدة. الاختبار الحقيقى الآن يقع على عاتق هذه الشعوب ودولها. هل تنتهز هذه الفرصة التى خلقتها لهم مصر بجهد عشر سنوات أم سيستمرون كما هم؟
أول الشعوب التى تواجه اختبارا حقيقيا هو الشعب الفلسطينى. هل يستكمل طريقا هو منحة مصرية خالصة أم سيستمر هذا الشعب فى تمزقه وتناحره الداخلى؟ هل سيسمحون لتلك الحركة التى أشعلت الحريق فى أحلامهم بالاستمرار فى غيها أم سيقدرون على كبح جماحها وصون ما بقى من وطنهم؟
الدويلات التى راهنت على سقوط مصر ووجهت طاقتها الإعلامية للطعن فى شرف مصر واستقرارها، هل ستعود إلى رشدها أم ستسمر فى طريق الشيطان؟
مراهقو أحلام زعامة غير مستحقة لهم ولا شرعية لها من قوة أو تاريخ أو مواقف أو عزيمة، هل ستنضجهم التجربة بكل قسوتها أم سيستمرون فى صبيانيتهم التى لا تتفق مع حرج اللحظة؟
الأهداف وضعتها مصر – على لسان رئيسها – بوضوح شديد. وجوب الاتفاق على خلق شرق أوسط جديد يقوم على التعايش السلمى الواقعى، والتمسك بإخلائه من أسلحة الدمار الشامل، والتمسك بحل الدولتين أساسا متينا لحل صراع الشرق الاوسط حلا نهائيا.
فهل ستنضج دول الشرق بحكوماتها وشعوبها وتعمل معا لتحقيق هذه الأهداف تحت القيادة الوحيدة القادرة فى المنطقة وهى القيادة المصرية أم هل ستسمر تلك الدول فى الخطاب الوهمى وتستمر فى التصارع الصبيانى أحيانا حتى يهدرون الفرصة كما أهدروا ما سبقها من فرص؟
هل ستنضج بعض الشخصيات المصرية المحسوبة على النخبة – دينية وأعلامية – وتدرك حجم وثقل وشرف بلادها أم ستستمر فى تبنى خطاب شعبى مراهق سياسيا وفكريا؟!
نحن المصريين لنا كامل الحق فى الفخر ببلادنا والإنتشاء بهذا المشهد الأعظم. مصر لا تنتظر شكرا من أحد ولا تقييما من أحد فهى قد اعتادت على نكران فضلها. بعضهم استكبر ولم يقر بالحقيقة وتلفظ بعبارات باهتة عن مساعدة مصر فى التوصل للاتفاق! عفوا فمصر لم تساعد أو تتوسط للوصول لاتفاق، لكن مصر بمفردها هى التى خلقت هذا الاتفاق. مصر هى صاحبة الفضل والدور ولولاها ما كان هناك شيئا ليحدث!
لا نستغرب النكران لكننا أصبحنا نكره كلمة نسيان!
0 تعليق