في الثالث عشر من أكتوبر تمر ذكرى ميلاد واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا وإثارة للجدل في القرن العشرين: مارجريت تاتشر، أول امرأة تتولى رئاسة وزراء بريطانيا، والمرأة التي غيرت ملامح السياسة والاقتصاد في بلادها، وتركت بصمة لا تمحى في التاريخ الأوروبي والعالمي.
لقبها خصومها بـ"المرأة الحديدية"، لكنه سرعان ما أصبح عنوانًا للقوة والعزيمة والإرادة السياسية الصلبة التي ميزت مسيرتها.

من بنت بقال إلى قائدة الأمة
ولدت مارجريت هيلدا روبرتس عام 1925 في بلدة جرانثام بمقاطعة لينكولنشاير، لأسرة متواضعة، كان والدها ألفريد روبرتس بقالًا وواعظًا بروتستانتيًا صارمًا، غرس فيها قيم العمل والانضباط والمسؤولية الفردية.
درست الكيمياء في جامعة أكسفورد، وهناك انضمت مبكرًا إلى اتحاد الطلبة المحافظين، لتبدأ رحلتها نحو العمل العام والسياسة من باب الطموح والاجتهاد لا الامتياز الطبقي.
بعد تخرجها، عملت باحثة كيميائية، لكنها سرعان ما تركت المختبر لتخوض غمار السياسة، وفي عام 1959، انتخبت عضوًا في البرلمان عن حزب المحافظين، لتبدأ صعودًا متسارعًا لم يتوقف حتى وصلت إلى قمة السلطة.

السيدة التي كسرت السقف الزجاجي
في عام 1979، أصبحت مارجريت تاتشر أول امرأة في تاريخ بريطانيا تشغل منصب رئيس الوزراء، بعد فوز حزبها المحافظ بأغلبية كبيرة.
ومنذ اللحظة الأولى، أعلنت أنها جاءت لتغير، لا لتساير، فأطلقت برنامجًا إصلاحيًا جريئًا استهدف تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وخصخصة المؤسسات العامة، وكبح جماح النقابات العمالية التي كانت تسيطر على الحياة الاقتصادية والسياسية في السبعينيات.

تقول عبارتها الشهيرة
"ليس هناك ما يسمى بالمجتمع، هناك أفراد رجالًا ونساءً، وهناك عائلات."
كانت تلك الجملة تلخيصًا لفلسفتها السياسية التي اعتمدت على الاعتماد على الذات والحرية الاقتصادية بوصفهما طريقًا للنهضة.

حروب ومواقف شكلت الأسطورة
لم تكن مسيرة ثاتشر خالية من المواجهات، ففي عام 1982 خاضت حرب فوكلاند ضد الأرجنتين، إثر احتلال الأخيرة للجزر الواقعة جنوب الأطلسي، الانتصار السريع أعاد لها شعبية كاسحة، وكرس صورتها كزعيمة حازمة لا تتراجع أمام الأزمات.
كما خاضت معارك شرسة في الداخل، أبرزها ضد نقابات عمال المناجم في إضرابات الثمانينيات، حيث رفضت التراجع عن سياساتها الاقتصادية رغم الضغوط والمواجهات الدامية، مؤكدة أن "الحديد لا يلين إلا بالنار".
وعلى الصعيد الدولي، لعبت دورًا محوريًا في تحالفها مع الرئيس الأمريكي رونالد ريجان ضد الاتحاد السوفيتي، وكانت من أبرز الداعين إلى تعزيز الناتو ومواجهة "التهديد الشيوعي".
وهي التي وصفت الزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف بعبارة أصبحت شهيرة: "يمكننا العمل مع هذا الرجل."

وجه آخر وراء الصرامة
رغم مظهرها الصلب ولهجتها القاطعة، كانت مارجريت تاتشر في حياتها الخاصة امرأة محبة للعائلة، وزوجة وفية لرجل الأعمال دينيس تاتشر، الذي دعمها بصمت طيلة مسيرتها.
كانت شديدة الإيمان بالتعليم والانضباط الأسري، وحرصت على تربية ولديها، كارول ومارك، على نفس القيم التي نشأت عليها.

غادرت تاتشر رئاسة الوزراء عام 1990 بعد أحد عشر عامًا في السلطة، وهي أطول فترة حكم لرئيس وزراء بريطاني في القرن العشرين.
ورحلت عن العالم في 8 أبريل 2013، لكنها تركت وراءها إرثًا من القرارات والسياسات التي ما زالت موضع نقاش حتى اليوم.
فبين من يراها رمزًا للنهضة الاقتصادية البريطانية، ومن يتهمها بأنها ساهمت في توسيع الفجوة الاجتماعية، تبقى مارجريت تاتشر ظاهرة سياسية نادرة أعادت تعريف مفهوم القيادة النسائية في زمن لم يكن يعترف بسهولة بقوة النساء.

تاتشر على الشاشة.. الفن يعيد قراءة الأسطورة
لم يغب حضور مارجريت تاتشر عن السينما والأدب، فقد ألهمت شخصيتها عشرات الكتب والأفلام الوثائقية والدرامية.
وكان أبرزها فيلم "The Iron Lady" (المرأة الحديدية) الذي أنتج عام 2011، وجسدت فيه الممثلة العالمية ميريل ستريب شخصية تاتشر ببراعة لافتة، حاصدةً جائزة الأوسكار عن دورها.
الفيلم لم يكن مجرد سيرة سياسية، بل رحلة إنسانية في عقل امرأة وحيدة وقوية في آن واحد، تتأمل ماضيها وتواجه شيخوختها بصراحة مؤلمة.
في المقابل، ظهرت شخصية تاتشر في العديد من الروايات البريطانية المعاصرة كرمز للسلطة الصارمة، والجدل بين الحرية والهيمنة، ما جعلها أيقونة ثقافية بقدر ما هي زعيمة سياسية.

امرأة صنعت التاريخ بقبضة من حديد
مارجريت تاتشر لم تكن مجرد سياسية، بل فصلًا كاملًا من فصول التاريخ البريطاني الحديث.
امرأة قادت أمة في زمن التحديات، ووقفت في وجه العواصف بثبات الحديد وإيمان لا يتزعزع بقدرة الإرادة على صناعة التغيير.
وفي ذكراها، تظل سيرتها درسًا في الشجاعة والإصرار، وفي أن القيادة لا تمنح.. بل تنتزع.

0 تعليق