أسماء عبدالعظيم تكتب: حين تصنع الدولة «قادتها» من المحافظات
الدول القوية لا تُدار من المكاتب المغلقة، بل تُصنع في الميدان. تُصنع هناك حيث تتقاطع الأزمات مع الواقع، وحيث لا تملك الإدارة رفاهية التنظير، بل تُجبر على القرار. ومن هذا الميدان تحديدًا، يخرج السؤال الذي لا يُطرح كثيرًا: هل يجب أن يكون رئيس الوزراء وزيرًا سابقًا بالضرورة؟ أم أن الدولة تمتلك في محافظاتها ما هو أعمق من ذلك بكثير؟
المحافظة ليست وحدة إدارية هامشية، بل هي صورة مصغرة للدولة بكل تناقضاتها. فيها الاقتصاد والخدمات، الأمن والمجتمع، السياسة والناس. والمحافظ الذي ينجح في إدارتها لا ينجح صدفة، بل لأنه تعلّم كيف يقرأ الواقع قراءة كاملة، وكيف يوازن بين ما هو متاح وما هو مطلوب، وبين ما تريده الدولة وما يحتاجه المواطن.
في كل محافظة ناجحة، تُدار معركة يومية مع نقص الموارد، وتضارب الاختصاصات، وضغط التحديات الاجتماعية والاقتصادية. وهناك، دون شعارات، يُمارَس علم الإدارة الحقيقي: تحديد نقاط القوة والضعف، اقتناص الفرص، مواجهة التهديدات، وصناعة الحلول الممكنة لا المثالية. وهذا النوع من القادة لا يُدرَّس في القاعات، بل يُصنع تحت ضغط الواقع.
الوزير يدير قطاعًا، أما المحافظ فيدير دولة صغيرة..
والفرق بين الاثنين ليس منصبًا، بل عقلية.
الجرأة السياسية هنا ليست في كسر التقاليد، بل في الاعتراف بأن المسار التقليدي لم يعد كافيًا وحده. فالدولة التي تريد حكومة قوية، تحتاج رئيس وزراء اختُبر في إدارة الاختلاف، لا في إدارة الملفات فقط. اختُبر في التنسيق بين الجهات، في حل الأزمات المتراكبة، في تحويل العجز إلى حركة، والضعف إلى فرصة.
ولو أثبتت كل محافظة في مصر نجاحًا حقيقيًا، فإن النتيجة لن تكون محلية، بل وطنية بامتياز. سينعكس النجاح على الدولة كلها، وسيتحوّل المنصب التنفيذي من غاية إلى نتيجة طبيعية للأداء. عندها فقط، لن يكون اختيار رئيس الوزراء قرارًا سياسيًا منفصلًا، بل حصيلة منطقية لمسار نجاح واضح.
إن الدولة التي تُراكم القيادات في المكاتب دون أن تمرّ بتجربة الميدان الحقيقي تُراهن على الصدفة، بينما الدولة التي تنظر إلى محافظاتها باعتبارها مصانع قيادة، لا مناطق إدارة فقط، تُراهن على المستقبل. نحن لا نفتقد الرجال، بل نفتقد قرار الاعتراف بهم. ولا نفتقد الكفاءة، بل نحتاج شجاعة منحها حقها في القيادة.
فالدولة التي تختار من اختُبر بين الناس، وعاش تفاصيل الواقع، ولم يختبئ خلف أوراق وتقارير… هي دولة تُعلن بوضوح أنها لا تخاف من الحقيقة، وأنها لا تبني شرعيتها على الشعارات، بل على الإنجاز.
وحين يأتي رئيس الوزراء من الميدان،
فإن الدولة لا تغيّر شخصًا في منصب،
بل تغيّر طريقة حكم كاملة.


















0 تعليق