"أسماك الزينة" تبحث عن مأوى في شوارع القاهرة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

جسده نحيل، وجهه يعلوه الشحوب المُغلّف بسُمرة طمي النيل وأرض مصر الطيبة، ملامحه حادة، شعره مجعّد، ملابسه بالكاد تستر أطرافه الضعيفة التي بدت مرتجفة من قسوة الشتاء وصقيع البكور. رأيته في أحد صباحات ديسمبر الباردة، حينها كُنت أسير مُسرعًا في طريقي لاستقل سيارة الأجرة، لأنجو من زخّات الأمطار التي أفلتت من قبضة السماء لتبلل رأسي وملابسي، وتغسل شوارع المدينة في ساعة مبكرة من الصباح. 

مسرحي مُتمرّس

هناك، رأيته يقف وقفة مسرحي مُتمرّس استطاع أن يُخفي ارتجاف جسده خلف صوته الأجش وهامته العالية التي لم تقلّ علوًا عن همّته في التعريف ببضاعته المُستقرة أمامه على طاولة بلاستيكية مُستديرة، في رُكن هادئ أمام محل مُغلق بشارع جانبي في أحد أحياء القاهرة.

"سمك الزينة يا سمك".. هكذا صدح الصبي مناديًا على أسماك الزينة التي امتلأت بها الأكواب البلاستيكية الشفافة أمامه على الطاولة. تطلّعت إليه، بالكاد بلغ السادسة عشرة من عمره، ترك أهله وأترابه، وسنوات طفولته وبداية صباه خلفه في الصعيد، حيث مسقط رأسه ونشأته، متوجهًا صوب القاهرة باحثًا عن اللقمة الحلال. أمعنت النظر فرأيت ارتعاشة يديه، وقدماه اللتان شمّر عنهما بنطاله، منتعلا "شبشب" من الجلد.

بدى الصبي متوجّسا مُرتابًا، كأنه ينتظر قدرًا ما أو موقفًا مفاجئًا، ربما يخشى مطاردة لم يحسب لها حساب، أو زائر قد يُصادر بضاعته التي سَتسْبَحُ على الأسفلت إن ركل أحدهم تلك المنضدة البلاستيكية التي تستقر عليها أكوابه.

نظرة واحدة إلى واقع حال الصبي كفيلة بإثارة مشاعرك بين الشفقة والفخر، في تلك النظرة ستتجسد أمامك الأشياء وأضدادها، المعاناة والأمل، الخوف والطموح، الضياع وعزّة النفس، ستجد أمامك أكثر من رجل، وأقل من إنسان بالمعنى المتعارف عليه في كل أبجديات ومتون الحق في حياة كريمة عادلة. 

ستجدك أمام حالة نادرة من البشر بكل تحوّلاتهم بين العجز والقوة، الضياع والعزيمة، الإنهزامية والغَلَبةٌ، كأنه قطعة نسيج برّاقة من غزل نول جارت عليه الأيام فلم تقوى على تمزيقه، وفرع شجرة عصفت به الرياح، فأبت جذورها إلا الصمود والبقاء.

اقتربت منه على الفور لأسأله عن بضاعته؛ وبريبة الذي يدفع تهمة عن نفسه، جاء رده: "بنسترزق يا باشا". عرّفته بنفسي وطمأنته، فأخبرني باسمه ومسقط رأسه، ونذر يسير - في كلمات مقتضبة – عنه. طلبت منه الإذن  في التسجيل معه والتقاط بعض الصور لبضاعته.

ارتبك الصبي رغم اللطف في الطلب، والود والألفة في الحديث؛ مبررًا خوفه بأنه لا يُريد أن يعرف أحدًا مكانه، فيتسبب ذلك في قطع عيشه الذي جاء سعيًا في طلبه غريبًا وسط ظروف معيشية صعبة لا ترحم، رافعًا شعار "أيه اللي رماك عالمر"، حتى يكسب لقمته بعرق جبينه، آمِلا ألا تُجبره الأيام على طلب إعانة أو مساعدة من أحد.

نموذجًا مشرّفا للسعي لكسب الرزق الحلال

طمأنته ووعدته بأنّي لن أُعلن عن مكان وقوفه، ولن أذكر اسمه، ولن أنشر صورة تكشف عن هويته، وأنّي سأكتب عنه لأنّه نموذجًا مشرّفا للسعي لكسب الرزق الحلال، ومثالًا يحتذى لا سيما في ذلك الوقت، وفي مثل هذه الظروف المناخية والاجتماعية القاسية. 

أخبرته أنّه ليس وحده، فملح الأرض كثير، وهم فخر هذا الوطن وبمثله يبقى ويستمر، ثم إن قصته ربما تُلهم آخرين، ممن استساغوا السؤال بديلًا عن البحث والسعي طلبًا للرزق في عزّة نفس، أو ربما تُحرّك أولائك الذين يجلسون عالة على ذويهم في انتظار الحلول السحرية لتغيير الأقدار.

شَعَرَ الصبي بالطمأنينة والراحة لحديثي، ابتسم وكأني وضعت وسامًا على صدره، رفع هامته لأعلى في إباء وعِزّة، عدّل -  بشكل لا إرادي - من ملابسه، ورأيت الشعور بالفخر يُغلّف ملامحه، وبريق صارخ يطل من عينيه.

أسماك ملونة تخطف أنظار الأطفال

سألته عن مكان جلّبه للأسماك، فقال إنه يحصل عليها من بنها. وعن متوسط أسعار الأكواب قال: "فيه بعشرة، وفيه بخمستاشر، والسعر مش واحد، يعني الكبيرة مش زي الصغيرة". أما عن أنواع الأسماك التي يعرضها، فبدى لا يعرف عنه شيئًا، فهي بالنسبة له مجرد أسماك ملونة تخطف أنظار الأطفال، الذين يعتبرهم زبائنه الأساسيين.

"كلهم زينة ومنظر يا باشا، ومعايا كيس الأكل بتاعهم". بهذه الكلمات التلقائية، تحدث عن سلعته، وهي عبارة عن سمكة داخل كوب بلاستيكي شفاف، يمنح مُشتريها "كيس أكل"، بخمسة جنيهات، تُضاف إلى سعر السمكة الواحدة، سواء كانت بعشرة جنيهات، أو بخمسة عشر جنيها. والكيس الواحد يكفي السمكة لخمسة أيام على حد قوله.

"أنا مش مغسّل وضامن جنّة، الأعمار بيد الله". كان هذا جوابه مبتسمًا، حينما سألته عن متوسط أعمار تلك الأسماك.. ردّ حاسم وصادم، ولكنّه لم يخلوا من ابتسامة كشفت عن أسنانه، التي اتخذت لونها من بياض قلبه وبراءة سنوات عمره.

وقفت أمامه إحدى الفتيات فترك الحديث معي وتوجه إليها: "الأتنين بعشرين، وفيه واحدة بخمستاشر، ومتحطيلهاش ميا من الحنفية علشان متموتش". 

سألته عن الماء الذي يعيش فيه هذا النوع من الأسماك، فأجابني بعفويته: "بنغير ميا للسمك عادي، بس لازم تكون ميّة فنتر، أو تحطله ميا سخنة وباردة". أدركت حينها أنه يقصد ماء الفلتر النقي، ولكنّي استفهمت منه عن الماء الساخن والبارد، وعرفت أنه يقصد الماء المغلي بعد أن يبرد، ليُصبح مُعقّمًا حتى لا تنفق الأسماك.

أما عن العائد المادي الذي يحققه المشروع، فكان رده مقتضبًا، بملامح يعلوها الرضا بما قسمه الله وبواقع الحال، ولم يزد عن قوله: "الحمد لله يا باشا، بتتعشى وربنا بيراضيني".

انهيت اللقاء سريعًا، شفقة بالفتي، لم أعد أرغب في الوقف معه أكثر من ذلك، خمس دقائق فقط قضيتها معه شعرت خلالها بأن الحديث بمثابة عبء ثقيل على كلانا، عبء عليه لتوتّره وقلقه من شخص مجهول يسأله حول مصدر رزقه، وعبء ثقيل عليّ لأنني شعرت أنّي - وبدون قصد - تسببت له في هذا القلق.

شكرت الفتى على حديثه، وتركته والابتسامة على وجه كلانا، مع تذكيره لي بعدم نشر صورته أو اسمه، وكان وعدي الصادق له بأن وجهه لن يظهر في الصور، كما أخبرته منذ البداية.

المحل المُغلق

تأهّبت للانصراف، وفي ذات اللحظة حضر صاحب المحل المُغلق الذي يقف الصبي أمامه، طلب منه الرجل حاسمًا وبصوت أجشّ أن يحمل أسماكه ويجد له مكانًا آخر، وأن ينتقل من أمام "دُكانه" على وجه السرعة، لأنه سيفتحه ليُباشر عمله.

في لمح البصر، بدى الصبي مضطربًا قلقًا حد الفزع، فاقدًا الإحساس بمن حوله، تطلّعت عيونه إلى الشارع متفحّصة نواصيه وأبواب محالّه، علّه يعثر على رُكن أمن؛ يقيه أمطار الشتاء، ويأوي أسماكه، ويُجنّبها زحام المارّة، وجنون الدراجات النارية، ووجه المدينة العابث، وسخافات المُتربّصين.

WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.37 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.37 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.36 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.36 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.09 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.09 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.18 PM
WhatsApp Image 2025-12-19 at 3.47.18 PM
تصميم بدون عنوان (2)
تصميم بدون عنوان (2)
تصميم بدون عنوان (1)
تصميم بدون عنوان (1)
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق