
في صباحٍ بارد من ديسمبر، بدا الخبر كأنه خفقة قلب توقفت بغتة. رحل محمد هاشم، الرجل الذي كان يمشي وفي جيبه قلب مفعم بالكلمات، وحول كتفيه شالٌ من الودّ يمنحه لمن يحتاجه قبل أن يطلب. عاش بين الناس كأنه صفحة مفتوحة، وعاش مع الكتب كأنه يحرّر العالم من خوفه.

كان حضوره يشبه الضوء الخفيف الذي لا يجرح العين، ويكفي لتلمّس الطريق. في مكتبه الصغير بوسط القاهرة، كان الهواء النقي يمر بين الرفوف، كأن الكتب تستريح من تعب الرحلة وتطمئن لعينه التي ترى فيها إمكانية، أو حلمًا ينتظر من يلمسه. كثيرون دخلوا ميريت وهم يشعرون بأنهم غرباء، ثم خرجوا منها وهم يعرفون أن هذا البيت يعرف أسماءهم قبل أن ينطقوها.

امتلك حنانًا مدهشًا، من النوع الذي لا يعلن وجوده لكنه يفوح. كان ينصت للكتّاب الشبان بصبرٍ يليق بمن يعرف أن البدايات مُربكة، وأن اليد التي تُمدّ في اللحظة المناسبة تغيّر العمر كله. لم يكن صوته عاليًا، لكن أثره كان يخرج من بين السطور، من تلك الكتب التي حملت رائحته وطبعه، من تلك الجرأة التي وضعها في قلوب من دعّمهم، من تلك المساحة الرحبة التي منحها للكلمة كي ترى النور.

الذين عرفوه يحتفظون بصورة لرجل يبتسم من زاوية المكان، يترك الحوار يجري ثم يقول جملة صغيرة تُشبه مفاتيح الأبواب المغلقة. كان من النوع الذي يترك أثره في التفاصيل: نظرة حانية، تعليق سريع، مشاركة صادقة.

ومع رحيله، تبدو الثقافة المصرية كما لو أنها فقدت صوتًا عميقًا يعرف الطريق إلى جوهرها. ذلك الصوت الذي لا يعلو، لكنه يعمّق كل شيء. تتذكره المقاهي التي أحبّها، والحوارات الطويلة التي كان يفتحها بلمعة عين، والكتب التي عبرت يده قبل أن تجد قارئها.

يبقى محمد هاشم في الوجدان يرافق الخطى: صديقًا للكلمة، نصيرًا للمبدعين، رجلًا عاش بقلب خفيف، وأثرٍ يزداد ثِقَلًا مع الأيام. لا يغيب من كان عطاؤه بهذا الصفاء، ولا تُطفأ روحٌ جعلت من الحياة مساحةً للكرامة والجمال.
سلام عليه في رحلته الجديدة.
سلام على تلك الطيبة التي لا تُنسى، وعلى أثرٍ سيظل جزءًا من الذاكرة الثقافية لهذا البلد.














0 تعليق