يمثل التحرش الجنسي بالأطفال إحدى أخطر الانتهاكات التي تهدد أمن الطفل النفسي والجسدي، وهو ظاهرة تمتد عبر المجتمعات والثقافات والطبقات الاقتصادية، وليست مجرد حوادث فردية عابرة. وتشير أحدث الأدلة والإحصاءات العالمية إلى أن حجم الاعتداءات أكبر بكثير مما يُبلّغ عنه رسميًا، وأن آثارها تمتد مدى الحياة.
تكشف تقديرات منظمة يونيسف أن أكثر من 370 مليون فتاة وامرأة على قيد الحياة اليوم — أي واحدة من كل 8 — تعرضن للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي قبل سن 18 عامًا، وعندما يُؤخذ في الحسبان العنف الجنسي غير المباشر مثل الاعتداءات عبر الإنترنت أو الإساءة اللفظية، يرتفع العدد إلى 650 مليون — أي واحدة من كل 5 على مستوى العالم. وفي المقابل، يُقدَّر أن 410 إلى 530 مليون صبي ورجل — أي نحو واحد من كل 7 — تعرضوا أيضًا للعنف الجنسي في مرحلة الطفولة، بما في ذلك بين 240 و310 مليونًا ممن تعرضوا للاغتصاب أو الاعتداء الجنسي المباشر.
وتبرز إحصائية عالمية أخرى تشير إلى أن طفلًا من بين كل 12 طفلًا — حوالي 8.3% — تعرض لشكل من أشكال الاستغلال أو الاعتداء الجنسي عبر الإنترنت، مما يعكس التهديد الرقمي المتصاعد الذي يستغل الأطفال في البيئات الرقمية والوسط المفتوح عبر شبكات الإنترنت.
وتؤكد البيانات أن غالبية الحالات تظل غير مُبلّغ عنها؛ ففي كثير من البلدان يُقدّر أن أقل من 10% من ضحايا العنف الجنسي يلتجئون إلى طلب الدعم أو الإبلاغ عن الجريمة، مما يعني أن الواقع قد يكون أعنف بكثير من الأرقام الرسمية المتاحة.
في قلب هذه الظاهرة يقف مفهوم البيدوفيليا (Pedophilia)، الذي يشير إلى الانجذاب الجنسي تجاه الأطفال قبل سن البلوغ. قد يظهر لدى بعض الأفراد ميلًا نفسيًا منحرفًا، لكن تحوّل هذا الميل إلى فعل — أي الاعتداء أو التحرش — يجعله تصرفًا إجراميًا واعيًا، وليس مجرد اضطراب بسيط. فعندما يختار الجاني ضحيته، ويستغل الثقة أو السلطة، ويخطط لفعلته ويُخفِيها، فإن ذلك يدل على وعي كامل وإدراك لسلوكه ونتائجه، وبالتالي يجب التعامل معه بوصفه مجرمًا مسؤولا قانونيًا وأخلاقيًا، لا كحالة تُعفى من العقاب بسبب “المرض”. العدد الهائل للضحايا حول العالم يُبرز أن الاعتداء الجنسي ليس مجرد خروج عن الأعراف الأخلاقية الفردية، بل ظاهرة اجتماعية تمتد آثارها لأجيال.
ولا يقتصر الاعتداء على الطرف الجسدي فقط؛ بل يمتد أثره إلى أبعاد نفسية واجتماعية عميقة. فقد بينت الدراسات أن التعرض للاعتداء الجنسي في الطفولة يرتبط بزيادة مخاطر الإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، وفقدان الثقة بالنفس، والمشكلات السلوكية والتعلّمية، مما يؤكد أن الطفل لا يتجاوز الجريمة بمجرد مرور الزمن.
الواقع الحقيقي للظاهرة يتطلب منا أن ننتبه إلى أن البيدوفيليا، حين تتحول إلى فعل، ليست مجرد مرضٍ يستدعي التعاطف فحسب، بل هي جريمة كاملة الأركان تستوجب العقاب، وتتطلب مواجهة جذرية من المجتمع والقانون والمؤسسات التربوية. فالتعامل مع مرتكبي الاعتداء كـ “مرضى” قد يُضعف عقوبة الجريمة، ويُقلّل من حماية الضحايا، بينما التعامل معهم كـ “مجرمين” يستند إلى فهم معمّق للخبرات النفسية والإجرامية لدى الجناة، ويؤدي إلى سياسات رادعة تضع حماية الطفل في المقام الأول.
وحول البيئة التي يعيش فيها الأطفال، تشير الإحصاءات إلى أن العنف ضد الأطفال يشمل أشكالًا متعددة من التهديدات؛ فوفق بيانات الأمم المتحدة، يتعرض ثلاثة من كل أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين سنتين و4 سنوات لـ “عدوان نفسي أو عقاب جسدي” من مقدمي الرعاية، بينما يعيش حوالي 1 من كل 4 أطفال دون سن الخامسة مع أم ضحية للعنف الأسري، مما يخلق بيئة معقدة تُسهّل وقوع الاعتداءات.
كما أن الخطر لا يختفي في الفضاءات التعليمية أو المنزلية فقط، بل يمتد إلى العالم الرقمي، حيث يُستخدم الإنترنت لاستغلال الأطفال. تتصاعد جرائم الاستغلال الرقمي بسرعة، سواء عبر مشاركة المواد الجنسية غير القانونية أو من خلال الاعتداءات الرقمية المباشرة، ما يفرض على المجتمعات أن تعتمد إستراتيجيات حماية إلكترونية فعّالة ومستمرة.
ومما يزيد الأمر إلحاحًا أن كثيرًا من الاعتداءات يُرتكب من قبل أشخاص يعرفهم الضحية — أقارب، معلمين، مسؤولين، أو أشخاص أثبتوا ثقتهم بالأسرة أو المجتمع — ما يجعل الأمر أكثر قابلية للتستر وبأثر نفسي أعمق على الضحية.
في ضوء هذه الأرقام والحقائق، يصبح من الضروري أن يتحوّل المجتمع إلى شريك فاعل في المواجهة: أن توضع قوانين صارمة تُجرّم الاعتداءات على الأطفال وتُطبق بصرامة، أن تُنشأ آليات كشف نفسي وتربوي منتظم للعاملين مع الأطفال، وأن تُنفَّذ برامج توعية وحماية تبدأ من الأسرة وتصل إلى المدارس والمجتمعات الرقمية. علينا أن نعالج الظاهرة كمجرم مجتمع كامل، لا كحالة فردية معزولة، لأن حماية الأطفال ليست رفاهية أو خيارًا ثقافيًا فقط، بل واجب أخلاقي وإنساني يجب تفعيله الآن قبل فوات الأوان.













0 تعليق