رواية «ميكروفون كاتم صوت» للكاتب اللبناني محمد طرزي هي تجربة سردية فريدة، ولم أختر الكتابة عنها لكونها فازت بجائزة نجيب محفوظ وجائزة كتارا للرواية العربية، ولكن لأنها ركزت على أصوات المهمشين، ليس في لبنان فقط كما تناولتها الرواية، ولكن في كل مكان. فهي صرخة تدعونا للتوقف قليلًا لنرى هؤلاء البؤساء في كثير من الأماكن الذين ينهشهم الألم في كل حركة، ويخترق الوجع إيماءاتهم، ويصبح العذاب فعلًا ملموسًا، ولا يلتفت إليهم أحد.
رواية «ميكروفون كاتم صوت» تبدأ بعبارة افتتاحية قوية دالة وعاكسة للحالة المأساوية للمجتمع:
"مدينتي مقبرة كبيرة،
يحكمها مذياعٌ للموتْ،
ما أكثر مكبّراتها،
وما أضعف فيها الصوتْ.."
هذه العبارة تُبرز سمات الرواية منذ البداية: التركيز على أصوات المهمشين، المدينة التي تخنق روح الإنسان، والأمل الباهت في مواجهة واقع متقلب وصعب.
يعتمد الروائي محمد طرزي في أسلوبه على ما يمكن تسميته بـ «السهل الممتنع»؛ لغة يسيرة وسلسة، لكنها محملة بالاستعارات والمجاز العميق، تجعل القارئ يعيش تجربة معقدة وغنية في الوقت ذاته. ويأتي هذا الأسلوب متقاطعًا مع الكوميديا السوداء، التي توظف السخرية لتسليط الضوء على مأساة الواقع، مما يمنح الرواية بعدًا إنسانيًا عالميًا يتجاوز حدود الزمان والمكان.
في هذا السياق، يقدم الروائي اللبناني تشريحًا دقيقًا للبنان الصغير جغرافيًا، الكبير جراحًا على مستوى الروح، في الفترة من 2018 إلى 2022، وهي الحقبة التي شهدت انهيار العملة اللبنانية وانفجار مرفأ بيروت. ونتعرف خلال هذه الفترة على شخصيات متنوعة ومهمشة تكافح لفهم الحياة وتحاول البقاء على قيدها في ظل ظروف تتزايد صعوبتها، وهو ما يجعل الرواية انعكاسًا حيًا لمعاناة الإنسان المعاصر
وفي قلب الرواية، تنبض الشخصيات المهمشة بالحياة رغم ألمها المستمر، كلٌ منها يحمل بصمة إنسانية قوية تجعل القارئ يتعاطف معها ويشاركها أفكارها، مخاوفها، وأحلامها المكسورة. وفيها نلمس قدرة الإنسان على مقاومة الألم، حتى حين تبدو الحياة مستحيلة، حيث تختبر المدينة بقسوة حواسنا ومبادئنا، بل وأحلامنا المكسورة...!
اختتم الروائي روايته بفقرة مؤثرة تُبرز مأساة الشباب في مواجهة الواقع الصعب، حيث كتب محمد طرزي في نهاية سطور الرواية تحت عنوان «على هامش الرواية»:
"كنتُ جالسًا في المقهى يوم تلقّى شابٌّ عشرينيٌّ، يجلس إلى طاولة محاذية، اتّصالًا هاتفيًّا. سمعته يقول بصوت متهدّج إنّ كلّ محاولاته للهروب من المقبرة باءت بالفشل.
في المساء، نعى مكبّر الصوت فقيد الشباب. في اليوم التالي، رأيت صورته على أوراق النعي. لاحقًا، عرفتُ أنّ الشابّ أنهى حياته، رأسًا بعد مغادرته المقهى، أنهاها لعجزه عن إيجاد طريقة للهروب من وطنه..."
ثم ذكر بأسف: هذه الرواية مهداة له، وهي ليست سيرته الشخصية، بل سيرة متخيّلة لشاب يشبهه، كان يمكن لحياته أن تكون أقلّ مأسوية...
وأكد على أن: "جميع شخوص هذه الرواية من وحي الخيال. إنّ أيّ تشابه بينها، سواء في الأسماء أو الألقاب أو المهن، وبين أشخاص حقيقيّين، هو محض مصادفة، مجرّدة من أيّ قصد..."
تتمثل قيمة الكاتب محمد طرزي أيضًا في مؤلفاته المتنوعة، فهي تمتد بين الرواية التاريخية والمعاصرة، مستلهمة أحداث الماضي وحكاياته لتكشف عن تفاعلات الإنسان مع محيطه. وله أعمال أدبية متنوعة مثل «جزر القرنفل – حكاية الحلم الأفريقي»، و«ماليندي – حكاية الحلم الإفريقي»، و«عروس القمر – حكاية الحلم الإفريقي»، و«رسالة النور – رواية عن زمان ابن المقفع»، وكذلك نصوصه مثل «أفريقيا – أناس ليسوا مثلنا» و«نوستالجيا». وفيها تلمس قدرته على مزج التاريخ بالسرد الأدبي وتحويل الأحداث الواقعية إلى تجارب إنسانية عميقة وملهمة، وتضيء أصوات المهمشين في كل زمان ومكان.
أود في الختام أن أذكركم بأن رواية «ميكروفون كاتم صوت» ليست مجرد قصة، بل صرخة المهمشين الذين يواجهون الحياة بصمت وألم، وما تكشفه عن أحلام مكسورة في مدن تدفن الروح وتقتل الأمل، وتجعل القارئ يعيش كل لحظة من التجربة بكل تفاصيلها. مع كل صفحة، يدعوك المؤلف إلى الغوص في عالم المدينة الصغيرة التي تحمل جراحًا كبيرة على مستوى الروح، حيث تختبر شخصياته الصمود والفقد والانكسار.
وتؤكد الرواية في النهاية على قدرة الأدب على تحويل المعاناة إلى تجربة جامعة تتجاوز المكان والزمان، وتدعو للاستماع إلى أصوات لم تُسمع طويلًا، حيث يصبح الصمت أحيانًا أعلى صوت.
وختامًا، أوجه التحية للكاتب اللبناني محمد طرزي على ما قدمه من روائع أدبية، وعلى قدرته الفريدة في نسج الحكاية وتحويل الألم الإنساني إلى تجربة سردية مؤثرة تخاطب القلب والعقل معًا. وللحق، هو واحد من أبرز الأصوات الأدبية المعاصرة في العالم العربي، وتجربته السردية تجمع بين التاريخ والخيال، مؤكدة أن الأدب قادر على تحويل المعاناة الإنسانية إلى تجربة عميقة وملهمة للقارئ.
نلتقي الأسبوع القادم، بإذن الله، مع قراءة جديدة وكتاب مختلف…











0 تعليق