يعيش الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لحظة حرجة على صعيد السياسة النقدية، إذ تتصارع رؤى أعضاء لجنة السوق المفتوحة حول مسار أسعار الفائدة.
بعض الأعضاء يرون ضرورة خفض الفائدة لدعم النمو وسوق العمل، بينما يرى آخرون أن أي تراجع قد يغذي التضخم المتواصل.
هذا الانقسام يعكس تحديًا معقدًا يجمع بين الاقتصاد، التضخم، والوظائف، وما يترتب عليه من انعكاسات عالمية.
الولايات المتحدة تواجه تضخمًا مستمرًا بلغ متوسطه السنوي نحو 2.9% خلال الأشهر الأخيرة، بينما التضخم الأساسي الذي يستبعد الغذاء والطاقة استقر عند نحو 3.1%.
في الوقت نفسه، يُظهر سوق العمل علامات ضعف دقيقة حيث يقدر معدل البطالة بنحو 4.5% والتوظيف يزداد ببطء في بعض القطاعات الحيوية، ما يجعل صانعي السياسة أمام مفارقة صعبة: خفض الفائدة قد يخفف الضغوط على سوق العمل لكنه قد يعزز التضخم، بينما التمسك بالفائدة المرتفعة يحمي من التضخم لكنه قد يبطئ النمو الاقتصادي.
رئيس الفيدرالي أشار إلى أن القرارات القادمة محفوفة بالمخاطر وأن لكل خطوة تأثير كبير على التوازن بين النمو والاستقرار النقدي.
في ظل هذه البيئة، بدأ الفيدرالي بخفض الفائدة تدريجيًا إلى نطاق 3.75–4.00% بعد سنوات من التشديد المستمر.
وإذا نظرنا إلى بيانات الاقتصاد الأمريكي، نجد أن التضخم لا يزال فوق الهدف المعلن للفيدرالي البالغ 2% على المدى الطويل، بينما سوق العمل يواجه ضغوطًا متزايدة.
وفي أغسطس، سجل مؤشر أسعار المستهلك زيادة شهرية تبلغ 0.4%، وهو ما يعكس استمرار الضغوط السعرية على المستهلكين، كما أن البطالة لم تشهد انخفاضًا كبيرًا، ما يشير إلى توازن هش بين نمو الوظائف والضغط التضخمي.
وهذه الأرقام تضع الفيدرالي أمام احتمال حدوث ركود تضخمي حيث يتباطأ النمو الاقتصادي مع استمرار ارتفاع الأسعار.
المخاطر ليست نظرية فقط، فارتفاع أسعار الطاقة والمواد الخام، إلى جانب الضغط على سلاسل الإمداد، يزيد من احتمالية هذا السيناريو.
وقد أدى هذا الواقع إلى تقسيم أعضاء الفيدرالي إلى ثلاث مجموعات رئيسية: مجموعة تدافع عن خفض الفائدة، مجموعة متشددة ترغب في التشديد للحفاظ على التضخم، ومجموعة وسطية تعتمد نهج "البيانات أولًا"، أي الانتظار لمزيد من المعلومات قبل اتخاذ أي قرار.
من خلال تحليل البيانات الحالية، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات محتملة لسياسة الفيدرالي في الأشهر القادمة، السيناريو التيسيري حيث يخفض الفيدرالي مرتين أو أكثر ما يدعم النمو لكنه قد يرفع احتمالية استمرار التضخم عند مستويات مرتفعة، السيناريو المعتدل حيث يتم الانتظار ومراقبة البيانات الاقتصادية قبل اتخاذ أي خطوة ما يوازن بين دعم النمو والسيطرة على التضخم، والسيناريو التشددي حيث التمسك بالفائدة أو رفعها إذا ارتفعت ضغوط الأسعار ما قد يبطئ النمو ويرفع تكلفة التمويل لكنه يحمي استقرار الأسعار.
كل سيناريو يحمل مخاطره، والاختيار يعتمد على الأولويات بين استقرار الأسعار ودعم الاقتصاد.
الخلاف في الفيدرالي لا يقتصر على الاقتصاد الأمريكي بل يمتد إلى الأسواق العالمية حيث أي ارتفاع في الفائدة يرفع تكلفة التمويل للدول والشركات التي تعتمد على الدولار في ديونها، بينما خفض الفائدة قد يدفع المستثمرين للبحث عن عوائد أعلى في أسواق أخرى، والتشديد قد يعيدهم إلى الأصول الأمريكية الأكثر أمانًا.
قرارات الفيدرالي تؤثر أيضًا على الاستثمار في الطاقة والمعادن وعلى الطلب العالمي لهذه الموارد.
وبالنسبة لدول الشرق الأوسط، خاصة المنتجة للطاقة أو المعتمدة على الاستثمار الأجنبي، فإن متابعة سياسة الفيدرالي أمر استراتيجي، فالتغيرات في أسعار الفائدة تؤثر على تكلفة الدين الخارجي وتدفقات الاستثمار وأسعار الطاقة. الدول التي تتمتع ببيئة استثمارية جذابة وقدرة على إدارة المخاطر ستتمكن من استغلال التقلبات لصالحها، بينما قد تواجه دول أخرى صعوبات إذا كانت البيئة الاقتصادية ضعيفة.
الخلاف داخل الفيدرالي الأمريكي ليس مجرد نزاع على الفائدة بل اختبار لقدرة البنك المركزي على الموازنة بين التضخم والنمو في فترة حرجة، حيث تشير الأرقام الحالية إلى أن كل خطوة مقبلة تحمل تداعيات كبيرة على الأسواق العالمية وعلى الاقتصادات الإقليمية.
القدرة على قراءة مؤشرات التضخم وسوق العمل ومراقبة التحولات العالمية ستكون المفتاح لإدارة المخاطر واستثمار الفرص في المستقبل القريب، إذ أن المعركة داخل الفيدرالي اليوم ليست مجرد مسألة أرقام بل اختبار لكفاءة وصمود السياسة النقدية الأمريكية أمام تحديات الاقتصاد العالمي المعقدة.







0 تعليق