منذ إعلان قيام إسرائيل عام 1948، كانت الولايات المتحدة هي الراعي الأول لها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، حتى تحولت العلاقة بين الطرفين إلى ما يشبه التحالف الاستراتيجي الكامل، تقوم فيه واشنطن بدور الحامي والممول، بينما تمثل تل أبيب رأس الحربة الأمريكية في الشرق الأوسط، هذا التحالف لم يكن مجرد علاقة صداقة بين دولتين، بل مشروعا مدروسا من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة لضمان التفوق الإسرائيلي في المنطقة والحفاظ على نفوذ واشنطن داخلها، وهو ما تجلى في حجم المساعدات الهائل الذي تدفق على إسرائيل منذ نشأتها وحتى حرب غزة الأخيرة.
فمنذ عام 1948 وحتى اليوم، بلغ إجمالي ما حصلت عليه إسرائيل من الولايات المتحدة أكثر من 300 إلى 310 مليارات دولار من المساعدات المختلفة، منها منح مالية، وقروض ميسرة، ودعم عسكري مباشر وغير مباشر، لتصبح إسرائيل أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية في العالم على الإطلاق. في البدايات كانت هذه المساعدات ذات طابع اقتصادي يهدف إلى بناء الدولة العبرية وتثبيت أقدامها في المنطقة، فشملت قروضا لإعادة توطين المهاجرين اليهود، وإنشاء البنية التحتية، وتأسيس الصناعات العسكرية والزراعية، لكن مع مرور الوقت، وتحديدا بعد حرب 1967، تغير الطابع العام للمساعدات الأمريكية، إذ تحولت تدريجيا من اقتصادية إلى عسكرية، حتى أصبحت المساعدات العسكرية تمثل نحو 99% من إجمالي ما تقدمه واشنطن لتل أبيب في الوقت الحالي.
دعم متواصل بناء على "مذكرة التفاهم"
في عام 2016 وقع "مذكرة التفاهم" الشهيرة بين واشنطن وتل أبيب، وهي اتفاق يمتد من عام 2019 وحتى عام 2028، ينص على تقديم الولايات المتحدة لإسرائيل نحو 38 مليار دولار خلال عشر سنوات، منها 33 مليار دولار في صورة تمويل عسكري خارجي، و5 مليارات دولار لبرامج الدفاع الصاروخي، وهو ما يعادل 3.8 مليارات دولار سنويا تصرف بشكل منتظم من ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية. وقد اعتبرت هذه المذكرة الأكبر في تاريخ العلاقات بين البلدين، كما أنها ضمنت لإسرائيل تفوقا نوعيا على جميع جيرانها العرب، سواء من حيث التسليح أو التكنولوجيا العسكرية.
لكن التحول الأهم في حجم ونوعية الدعم الأمريكي حدث بعد السابع من أكتوبر 2023، حين اندلعت حرب غزة الأخيرة عقب عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة حماس.. حينها أطلقت الولايات المتحدة أوسع حملة دعم مالي وعسكري لإسرائيل في تاريخها الحديث، إذ أقرت الإدارة الأمريكية والكونجرس معا حزم تمويل طارئة تجاوزت قيمتها 22 مليار دولار في أقل من عام، وقد توزعت هذه المساعدات بين دعم مباشر للجيش الإسرائيلي بقيمة 17.9 مليار دولار وفق تقرير جامعة براون الأمريكية، ودعم إضافي للعمليات الأمريكية الإقليمية المرتبطة بالحرب – مثل تعزيز وجود الأسطول الأمريكي في البحر المتوسط والبحر الأحمر – بلغت قيمته نحو 4.86 مليار دولار، ليصبح الإجمالي التقريبي 22.76 مليار دولار، وهو ما يشار إليه إعلاميا ورقابيا بأنه الدعم الأمريكي الطارئ لإسرائيل خلال حرب غزة.
هذا الرقم لم يضخ على فترات طويلة كما كان في الماضي، بل خصص خلال أقل من عام واحد، ما يعكس حالة الاستنفار السياسي والعسكري التي تعاملت بها واشنطن مع الحرب، جزء كبير من هذا الدعم جاء في شكل تمويل عسكري مباشر عبر برنامج التمويل العسكري الخارجي (FMF)، الذي يتيح لإسرائيل شراء الأسلحة الأمريكية المتطورة مثل القنابل الذكية وأنظمة التوجيه الدقيقة، إضافة إلى صيانة الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية وعلى رأسها القبة الحديدية ومنظومة "مقلاع داوود" و"حيتس". كما تم سحب كميات ضخمة من الذخائر من المخازن الأمريكية الموجودة مسبقا في الأراضي الإسرائيلية لتزويد الجيش الإسرائيلي بها على الفور، وهو ما يوضح عمق الترابط اللوجستي بين الجيشين.
ضمان الميزة العسكرية لإسرائيل
تدعي واشنطن أن هذه المساعدات تأتي تحت مبدأ "ضمان الميزة العسكرية النوعية" لإسرائيل، وهو تعبير سياسي وعسكري معتمد منذ السبعينيات يعني ببساطة أن على الولايات المتحدة أن تضمن لإسرائيل تفوقا تكنولوجيا وعسكريا على أي قوة عربية أو إقليمية مجاورة، إلا أن هذا التفوق المدعوم أمريكيا كان يعني في الوقت ذاته إدامة اختلال ميزان القوى في المنطقة، واستمرار النزاع الفلسطيني الإسرائيلي دون أفق عادل للحل، لأن أي مفاوضات سياسية تصبح بلا معنى حين يكون أحد الأطراف مدججًا بأحدث الأسلحة الأمريكية ويمتلك غطاءً سياسيًا غير محدود من واشنطن.
واستنتاجي مما قرأته وأشارت إليه تحليلات مؤسسات أمريكية مثل مجلس العلاقات الخارجية (CFR) إلى أن الدعم الأمريكي لإسرائيل ليس مجرد التزام أخلاقي أو ديني كما يصوره بعض الساسة، بل هو استثمار استراتيجي طويل المدى في الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، خصوصًا في ظل تراجع نفوذها في مناطق أخرى من العالم وصعود قوى مثل الصين وروسيا، فإسرائيل بالنسبة لواشنطن تمثل قاعدة عسكرية متقدمة، ومركزًا للاستخبارات، وحليفًا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة إيران وحركات المقاومة، لهذا تواصل الولايات المتحدة ضخ المليارات سنويا رغم المعارضة المتزايدة داخل الكونجرس والرأي العام الأمريكي، الذي بدأ يظهر انقساما واضحا حول استمرار تمويل الحروب الإسرائيلية.
إن الرقم 22 مليار دولار لا يمثل سوى فصل جديد في سجل طويل من الدعم الأمريكي لإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يعكس حجم الانحياز غير المسبوق في لحظة كانت تحتاج فيها واشنطن إلى التوازن، لا إلى الاصطفاف الكامل خلف جيش متهم بارتكاب انتهاكات إنسانية واسعة، فالولايات المتحدة لم تكتف بتسليح إسرائيل، بل وفرت لها الغطاء السياسي الكامل في مجلس الأمن، ومنعت صدور قرارات دولية تدعو لوقف إطلاق النار أو محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، وهكذا تحولت المساعدات إلى أداة لفرض واقع جديد في المنطقة، يعيد ترتيب التحالفات ويزيد من عزلة واشنطن الأخلاقية أمام الرأي العام العالمي.
منظومة متكاملة من الرعاية الشاملة
في نهاية حديثي لك عزيزي القارئ، يمكن القول إن الدعم الأمريكي لإسرائيل منذ نشأتها وحتى حرب غزة الأخيرة ليس مجرد أرقام مالية، بل هو منظومة متكاملة من الرعاية السياسية والاقتصادية والعسكرية، هدفها تثبيت إسرائيل كقوة إقليمية فوق القانون الدولي، ومع ضخ 22.76 مليار دولار في أقل من عام، بات واضحًا أن واشنطن لم تعد مجرد داعم، بل أصبحت طرفًا مباشرًا في الحرب، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل هذا التحالف، وحدود قدرته على الاستمرار في عالم تتغير موازينه بسرعة وتتعاظم فيه كلفة الانحياز على حساب العدالة والإنسانية.











0 تعليق