«الجلابية».. قراءة في ذاكرة الهوية المصرية

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في الأيام الأخيرة، اشتعل جدل واسع حول صورة بسيطة لزوجين يرتديان جلابية داخل المتحف المصري الكبير، لتتحول اللقطة إلى معركة رأي عام حول «رمز الهوية المصرية»، بين من يراها فخرًا ومن يراها مظهرًا ريفيًا لا يمثل الحاضر.

لكن قبل أن نحاكم الصورة، ربما علينا أن نسأل: ما أصل الجلابية المصرية؟ ومتى تغيّرت ملامحها؟

الجلابية في ذاكرة المصريين

الجلابية، كما تؤكد دراسات التراث الشعبي بالمتحف القومي للحضارة ومراجع مثل كتاب الزيّ المصري عبر العصور (د. عبد العزيز جاويش، الهيئة العامة للكتاب 1987)، ليست زيًّا دخيلًا ولا وافدًا من الجزيرة أو الشام، بل امتداد طبيعي لملابس المصريين منذ العصور القديمة؛ ثوب فضفاض طويل، خفيف القماش، يناسب طبيعة المناخ وبيئة الريف.

جلابية النساء كانت فستانًا من الكتان أو القطن، ملوّنة بألوان زاهية؛ الفيروزي، والأحمر القاني، والأخضر الزيتوني، وتُزيَّن بالتطريز اليدوي، وكانت تُضمّ من الخصر بحزام من القماش المطرز أو الحرير، أي إنها كانت رمزًا للجمال والأنوثة المصرية الريفية، لا تشبه العباية السوداء الخليجية في شيء.

جلابية الرجال حملت دائمًا طابع البساطة والكرامة الريفية، بأكمام واسعة وجيب أمامي، تختلف في شكل الياقة واللون من الصعيد للدلتا، لكنها ظلت رمزًا للأصالة والانتماء.

هذه الأزياء كانت تعبيرًا عن هوية مصرية خالصة قبل أن تتبدّل أنماط اللباس تبعًا للتحولات الفكرية والاجتماعية في القرن العشرين.

من ألوان الحقول إلى سواد السبعينيات

منذ سبعينيات القرن العشرين، شهدت مصر تغيّرات اجتماعية حاسمة: الانفتاح الاقتصادي، الهجرة من الريف إلى المدن، نمط استهلاكي جديد، وتحول في الخطاب الديني العام. هذا المزيج أسّس لبيئة تغيّر فيها شكل اللباس.

وعلى وجه خاص، دخلت التيارات الإسلامية المرجعية (مثل الإخوان المسلمون، وحركات الدعوة ذات الطابع الوهابي) كفاعل ثقافي يُعيد تشكيل ما يُسمى «لباس المسلمين».

في هذا السياق، ارتبطت العباءة السوداء أو الملابس المحايدة الممتدة بوصفها «زيًّا محتشمًا»، بينما بدأت الملابس الشعبية تتراجع من المشهد العام أو يُنظر إليها بأنها «تقليد مفرط».

ترافق ذلك مع خطاب ثقافي وديني يربط بين «التقوى» و«نوع الثياب»، في مقابل تراجع الحس الجمالي والتنوع الذي كان جزءًا من هوية المصريين.

تحوّل اللون الأسود من رمز الحداد إلى علامة «وقار»، وغابت الألوان عن حياة النساء في الريف والحضر معًا.

تؤكد دراسات سوسيولوجية (د. ناهد عز الدين، مجلة الثقافة الشعبية، عدد 2015) أن هذا التغير لم يكن مجرد تبدل أقمشة، بل تحوّل في الهوية المصرية نفسها، التي بدأت تنكمش أمام خطاب التدين المظهري المستورد من الخليج.

تزامنًا مع ذلك، أصبحت مراكز التصنيع والنسيج تغيّر معايير الأقمشة والألوان للذكور والإناث، وبدأت المدن تستعر نمطًا غربيًا/عربيًا موحّدًا في اللباس. هذا أدى إلى تراجع الحضور الملوّن والمضمون للجلابية التقليدية، وتحوّلها أكثر إلى «زيّ تراثي» يُستعاد في المناسبات أو المناطق الريفية، وليس لباسًا يوميًا.

إذًا، ما تغيّر ليس فقط شكل الجلابية، بل موقعها في الوعي الاجتماعي والثقافي، من لباس يومي يعبر عن حياة الريف، إلى قطعة تُستعاد كرمز تراثي أو تُهمش باعتبارها «زيًّا غير حضري». وهذا التحول يعكس بوضوح صراع الهوية بين مركز حديث عالمي وهوامش محلية قديمة.

الجلابية ليست معركة

لكن هذا لا يعني أن الجدل الراهن هو حرب بين فريقين، فالمصريون، بكل أطيافهم، يحبون بلدهم ويدافعون عن هويتها، حتى وإن اختلفوا في طريقة التعبير عنها.

الجلابية، في جوهرها، ليست «رمزًا طبقيًا» ولا «لباس فئة»، بل جزء من الذاكرة الجماعية، أن يرتديها فلاح أو صعيدي داخل المتحف ليس خروجًا عن المألوف، بل عودة رمزية للجذور التي منها خرجت الحضارة ذاتها.

الهوية المتصالحة

اليوم، بعد نصف قرن من التحولات، لم يعد المطلوب أن نحاكم الأزياء بل أن نفهمها. فالمجتمع الذي يتصالح مع ماضيه لا يخاف من ثيابه، ولا يهاجمها، ربما كانت أزمة الجلابية الأخيرة فرصة لتذكيرنا بأن الهوية ليست ما نرتديه، بل الوعي بما نحمله من تاريخ.

وتاريخنا، رغم كل ما مرّ به من تغييرات فكرية واجتماعية، ما زال مليئًا بالألوان، ينتظر أن نراها من جديد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق