في واحدة من أضخم قضايا الفساد التي عرفتها إسرائيل منذ تأسيسها، فجّرت شرطة الاحتلال الإسرائيلية أمس الاثنين مفاجأة من العيار الثقيل، حين أطلقت حملة اعتقالات واسعة طالت قيادات بارزة في اتحاد النقابات العامة في إسرائيل (الهستدروت)، بينهم رئيس الاتحاد أرنون بار دافيد وزوجته، ورجل الأعمال المعروف غباي، وعدد من كبار الموظفين والمسؤولين في السلطات المحلية، بينهم رئيس بلدية. وتصف وسائل الإعلام الإسرائيلية القضية بأنها أكبر فضيحة فساد في تاريخ الدولة العبرية.
شبكة فساد متشعبة
وبحسب التحقيقات، فإن الشرطة الإسرائيلية، بعد تحقيقات سرية استمرت عامين، تمكنت من كشف شبكة واسعة من الفساد داخل أروقة الهستدروت ومؤسسات حكومية وبلدية وشركات عامة.
وأشارت المصادر إلى أن التهم الموجهة للمعتقلين تتعلق بـ الرشوة، والاحتيال، وخيانة الأمانة، إلى جانب استغلال النفوذ وتبادل المنافع المالية والمناصب.
ووفقا للمعلومات التي تسربت من داخل التحقيق، فإن رجل الأعمال غباي الذي يوصف بأنه "الوسيط الذهبي" وصاحب شبكة علاقات نافذة لعب الدور المحوري في إدارة هذه المنظومة. إذ استخدم مكانته وعلاقاته الواسعة مع سياسيين ومسؤولين في الهستدروت لترتيب تعيينات في مجالس إدارات شركات حكومية، مقابل نقل تأمينات العاملين في تلك المؤسسات إلى شركة التأمين التي يمتلكها.
ويعرف غباي بصلاته الواسعة مع شخصيات سياسية من حزب الليكود، وأعضاء كنيست، ورؤساء بلديات، فضلاً عن كبار رؤساء شركات التأمين الإسرائيلية. وتشير التحقيقات إلى أنه على مدى ثلاثة عقود في مجال التأمينات لا سيما التأمين الصحي كون غباي شبكة نفوذ مكنته من توجيه قرارات التعيين والتعاقدات داخل النقابات والمؤسسات العامة بما يخدم مصالحه التجارية.
تورط قادة الهستدروت
الشرطة تشتبه بأن رئيس الهستدروت أرنون بار دافيد، الذي اعتُقل مع زوجته، تلقى منافع مالية وشخصية من غباي مقابل تسهيل تلك التعيينات أو تمرير مصالحه. وقد تم تمديد اعتقالهما لثمانية أيام إضافية لاستكمال التحقيق.
وخلال جلسة المحكمة، أوضح ممثل الشرطة أن التحقيقات كشفت عن فساد ممنهج داخل الاتحاد، وأن القضية "تعد من أكبر ملفات الفساد العام التي عرفتها إسرائيل"، متحدثاً عن تنفيذ أكثر من 158 عملية تحقيق حتى الآن، ومداهمة 55 موقعاً في أنحاء البلاد. كما تم ضبط حواسيب وهواتف ووثائق مالية يُعتقد أنها تحمل أدلة حاسمة.
وأضاف ممثل الشرطة أن القضية تتعلق بمبالغ ضخمة جُمعت من خلال استغلال مناصب عامة، وأن هناك خشية من أن يحاول بعض المشتبه بهم التأثير على الشهود أو إتلاف الأدلة، ما استدعى تمديد فترات احتجازهم.
مئات المشتبه بهم
تشير التقديرات إلى أن التحقيقات قد تشمل أكثر من 300 شخص، بينهم مسؤولون في بلديات وهيئات حكومية، ومديرو شركات عامة.
وتولت وحدة مكافحة الجرائم الكبرى والدولية "لاهف 433" تنفيذ الحملة، إذ داهمت في السادسة صباحاً منازل المتهمين وصادرت وثائق وأجهزة إلكترونية، في عملية منسقة شملت مدناً عدة بينها ريشون لتسيون، كريات غات، كريات بيالك، روش هعاين، وأشدود.
وشملت الاعتقالات أيضاً شخصيات أخرى من الصف الأول في النقابات، مثل رئيس لجنة موظفي شركة القطارات، إياف إلياهو، المشتبه بالرشوة والوساطة فيها، إلى جانب نائب رئيس الهستدروت روعي يعقوب، ورئيس سلطة الشركات في الاتحاد شيفي ميخائيلي، ورجل الأعمال دانيال زيغرايخ، الذي نفى محاموه تورطه في القضية.
منظومة مصالح متبادلة
وبحسب ما رشح من تفاصيل التحقيق، فإن غباي كان يدير منظومة فساد ممنهجة داخل الهستدروت. فقد حرص على توظيف مقربين منه في مناصب عليا داخل السلطات المحلية والشركات العامة، مقابل حصول مسؤولي الاتحاد على امتيازات مالية ووظائف مغرية لأقربائهم. كما عثر على أدلة تشير إلى تعيين بعض هؤلاء الأشخاص في مجالس إدارة شركات حكومية برواتب مرتفعة جداً، ضمن شبكة هدفت إلى توسيع دائرة النفوذ وتبادل المصالح بين رجال الأعمال والمسؤولين النقابيين.
وقال محامي بار دافيد إن موكله وغباي "صديقان منذ ثلاثين عاما"، نافياً أن يكون رئيس الهستدروت قد استخدم منصبه لخدمة مصالح غباي. وأكد أن الأخير "يتباهى بعلاقته ببار دافيد" لكنه لم يحصل على امتيازات فعلية من ورائها. بينما صرح غباي أمام المحكمة قائلاً: "قالوا لي في الشرطة: أعطنا دليلاً ضد بار دافيد وسنطلق سراحك"، في إشارة إلى ضغوط التحقيق.
الهستدروت في عين العاصفة
تأتي هذه الفضيحة في وقت حساس، إذ يعتبر اتحاد النقابات العامة مؤسسة ذات نفوذ اقتصادي وسياسي هائل في إسرائيل، ويضم تحت مظلته مئات آلاف العمال ويدير مؤسسات صحية واقتصادية ضخمة. وعلى مدار أكثر من قرن من الزمن، ظلّ الهستدروت خاضعاً لهيمنة اليسار وحزب العمل، في حين ظلّ اليمين أقل تأثيراً داخله.
ولهذا السبب، يرى مراقبون أن تفجر هذه الفضيحة يعد "هدية من السماء" لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يواجه هو نفسه اتهامات بالفساد في ملفات متعددة. إذ إن انكشاف فساد بهذا الحجم داخل مؤسسة محسوبة على خصومه السياسيين من اليسار، يضعف جبهة معارضيه ويمنحه ورقة ضغط جديدة في معركته السياسية والقضائية.
أصداء سياسية وإعلامية واسعة
الصحف الإسرائيلية وصفت الحدث بأنه "زلزال سياسي واجتماعي"، بالنظر إلى حجم المتورطين والمواقع الحساسة التي يشغلونها. ويرى محللون أن القضية قد تؤدي إلى تفكيك التحالفات داخل الهستدروت وربما إلى إعادة هيكلة عميقة للاتحاد. كما قد تفتح الباب أمام اليمين لتعزيز نفوذه داخل النقابات بعد سنوات من الهيمنة اليسارية.
في المقابل، حذر خبراء قانونيون من أن التحقيق لا يزال في بدايته، وأن ما ظهر للعلن هو فقط رأس جبل الجليد، مرجحين أن تكشف المرحلة القادمة عن تورط شخصيات سياسية إضافية، وربما موظفين في وزارات أو شركات حكومية كبرى.











0 تعليق