إنسانٌ يحاول أن ينجو من ذاكرته!

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتختلط فيه الحكايات، تأتي رواية «عمى الذاكرة» للكاتب اليمني حميد الرقيمي، لتعيد الاعتبار إلى الحكاية الفردية، وإلى صوت الإنسان العادي الذي يحاول أن يفهم نفسه وسط خرابٍ عام.

هذه الرواية فازت بجائزة كتارا للرواية العربية لعام 2025، وهي تقدّم شهادة أدبية عن جيلٍ عاش الحرب، لا بوصفها حدثًا سياسيًا، بل كجحيمٍ يومي يسكن الجسد والذاكرة معًا!.

نجح الكاتب، من خلال لغته الرصينة وإيقاعه السردي المتماسك، في خلق عالمٍ مفعم بالرموز، تتقاطع فيه الحروب مع الأسئلة الوجودية، والذاكرة مع النسيان، والحياة مع أشباح الموت. وتثبت أيضًا أن الأدب اليمني، رغم جراح البلاد العميقة، لا يزال قادرًا على تقديم صوته الخاص إلى المشهد الإقليمي والدولي، صوتًا يمزج بين البساطة والعمق، وبين الواقع والرمز.

إن «عمى الذاكرة» ليست فقط رواية عن حربٍ يمنية، بل حكاية عن الإنسان في كل مكان حين يفقد ذاكرته ويبحث عن معنى للبقاء.

يبدأ النص بمشهد الهروب الذي يلخص مأساة مدينةٍ تُطاردها الحرب:

«وقفت على أعتاب صنعاء، أشاهدها للمرّة الأخيرة، كانت الساعة تشير إلى العاشرة مساء، الشوارع خالية من الناس، وما من وجود لأية علامات تدّل على الحياة... رأيت المدينة نفسها في موتٍ مشابه، تقيم رفاتها على مأتمٍ منسي، كما لو كانت هي الأخرى توّاقة إلى الهروب...»

هنا تبدو اللغة مشبعة بصورٍ بصرية ومجازية، تعكس علاقة الراوي بمدينته؛ ليست صنعاء في الرواية مكانًا فحسب، بل ذاكرة حيّة تتداعى تحت القصف. وحين يصف سبعة أعوامٍ من الموت المعلّق على نوافذ المدينة، يتبدّى صوت الإنسان الذي يكتب من قلب الجرح، لا من مسافةٍ آمنة:

«منذ سبعة أعوام، والموت معلق على نوافذ المدينة... حتى إنني صرت أخشى كتابة هذه المشاهد على الورق، خوفًا من أن تخرج رصاصة من حرفٍ تعوَّد على القتل، فينال من أصابعي النحيلة».

هذه اللغة المدهشة، التي تجمع بين الشعر والواقعية، هي ما يمنح الرواية تميزها. هي ليست كتابة عن الحرب بوصفها صراعًا سياسيًا، بل كاختبارٍ قاسٍ للذاكرة والهوية. ومن أعمق مقاطع الرواية فقرة في نبرةٍ كاشفة:

«عليك أن تعي هذا، وقبل أن تأخذك هذه الصفحات المنقطة بالسواد، تذكّر أن من يكتب سيرته هنا إنسانٌ مثلك... لكنني على علم بأننا نتشابه كثيرًا، حتى وإن كان للحرب رأي آخر...»

في هذا الاعتراف، تتحول السيرة الفردية إلى صوتٍ إنساني جامع، يذكّر القارئ بأن كل ضحية في الحرب تحمل داخلها سيرة العالم كله. كما يستعيد الكاتب صوت الجدّ، الذي يمثل الحكمة اليمنية العميقة في مواجهة العبث: «كان جدي يقول لي وأنا على حِجْرهِ: إن الإنسان الذي يخرج عن طوره في لحظة الرفض، حقيقي وصادق، وإن الحرب التي لا تغيّر آدمية البشر سهلة وعابرة... لكنها أخذت تحفر في ذاتي، حتى شُكِّلت عليها وصارت اليوم في ناصية رأسي كدستور حياة...»

هنا تتقاطع الذاكرة الشخصية مع الذاكرة الجمعية، ويصبح صوت الجدّ بمثابة ضميرٍ غائب يتابع الأجيال من خلف الغبار.

ويمتد السرد إلى مرحلة أخرى من حياة البطل، حين يحاول أن يستعيد نفسه عبر التعليم، فنقرأ في فصل «الريفي الصامت»:

«تفتحت أمامي حياة أخرى، كأن نسيمًا طائشًا كان يأخذني من مكان إلى آخر؛ فقد أصبحت طالبًا في كلية الحقوق... كانت اليمن تعيش مرحلة انتقالية جديدة، وكان الناس وقتها يعوِّلون على مستقبلٍ خالٍ من الدماء وأصوات الحرب».

ثم تأتي لحظة الارتباك الكبرى، حين يُسأل عن ذاته في قاعة الدرس:

«كانت قاعة الدراسة تمتلئ بالكثير من الطلاب من محافظات مختلفة. وفي أحد الأيام طلب مني أستاذ مادة القانون الدولي أن أتحدث عن دوافعي في دراسة هذا التخصص؛ لقد وقفت مرتبكًا والعرق ينساح على جسدي، وكانت الارتعاشات واضحة وهي تهب من فؤادي حتى تكاد تقلع الكرسي من شدة اضطرابها. وقفت وبالكاد حاولت أن أسيطر على نفسي، لم أكن أعرف ماذا أقول، ولماذا أنا هنا، وما الذي دفعني للدراسة، حتى إنه عندما طلب مني التعريف بنفسي تذكرت أبي الذي أجهله، وتذكرت الحادثة التي لا أفقه منها إلا الموت والقصف، وبأنني فقدت ذاكرتي، في الوثائق أنا ابن سالم، وجدي أحمد ذلك العملاق الذي أشعر في المساءات الموحشة بأنه في عراك مع قبره الذي ضاق به ذرعًا، أمي لطيفة، وأنا يحيى، هذا كل شيء، بقية الأجزاء مفقودة».

في هذه الفقرة المكثفة تتجسد فكرة الرواية كلها: الإنسان الذي لم يبقَ له من الذاكرة سوى الاسم، والبقية محوٌ يتجدد كل يوم. نقرأ لغةً مشحونة بالصدق والألم، دون ادعاءٍ أو خطابية، وكأنها توثّق تجربة شخصية جماعية في آنٍ واحد. لا شعارات في هذا النص إطلاقًا، بل نفوس حائرة، خائفة، وشخوص تبحث عن الخلاص، ومدنٌ تتنفس الموت، وأحلامٌ تحاول أن تنجو من ركامٍ لا ينتهي.

«عمى الذاكرة» ليست فقط رواية عن حرب اليمن، بل عن ذاكرة الإنسان حين تتآكلها الفواجع. هي عملٌ يذكّر القارئ بأن الكتابة، أحيانًا، هي الفعل الوحيد المتاح للنجاة، وأن من يكتب سيرته، في النهاية، إنسانٌ يحاول أن ينجو من ذاكرته.

الأسبوع القادم، بإذن الله، أكمل قراءة رواية «عمى الذاكرة» للكاتب حميد الرقيمي

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق