«أنا هنقل تمثال رمسيس إلى المتحف المصري الكبير وهو واقف.. وبدل ما تبقى جنازة يبقى موكب».. بهذه الجملة البسيطة لخص الدكتور المهندس أحمد محمد حسين، أستاذ الهندسة بجامعة عين شمس، فكرته العبقرية التي تحولت إلى معجزة هندسية حين نُقل تمثال رمسيس الثاني من ميدانه الشهير بوسط القاهرة إلى موقعه الحالي في المتحف المصري الكبير.
قصة نقل التمثال العملاق، الذي يبلغ وزنه نحو 83 طنًا، بدأت عام 2004 عندما صدر القرار التاريخي بنقله من ميدان رمسيس إلى موقعه الجديد أمام المتحف الكبير. ورست المناقصة حينها على شركة المقاولون العرب، التي بدأت في دراسة العروض المقدمة من شركات عالمية متخصصة.
كل المقترحات كانت تدور في اتجاه واحد: تفكيك تمثال رمسيس إلى عدة قطع ونقله ثم إعادة تركيبه من جديد، بينما بعض الشركات عرضت نقله قطعة واحدة ولكن «نايم» على ظهر شاحنة ضخمة.
لكن عندما طُلب من الدكتور أحمد حسين إعداد تحليل للمخاطر (Risk Analysis) لتلك الطرق، رفض فكرة تفكيك التمثال أو نقله وهو ممدد، وقال بثقة: «ليه نفك ونركب؟ وليه ننيّمه؟ التمثال ده يتنقل وهو واقف عادي!».
بدت الفكرة في ذلك الوقت مجنونة من الناحية الهندسية، إذ إن الميل الطفيف في الكباري أو المنحنيات الجانبية على الطريق كان من الممكن أن يتسبب في سقوط التمثال وتحطمه إلى آلاف القطع.
ومع ذلك، لم يتراجع حسين، وشرح فكرته بطريقة عملية، موضحًا أن التمثال سيتحرك وهو بيتمرجح بطريقة مدروسة توازن أي ميل في الطريق.
الريسك زيرو.. معجزة نقل تمثال رمسيس إلى المتحف المصري الكبير
الريسك زيرو.. قالها بثقة، أي لا توجد أي مخاطرة، مؤكدًا أن فكرته آمنة تمامًا، بينما كانت شخصيات كبرى متخوفة من التنفيذ، منهم الدكتور زاهي حواس والدكتور فاروق حسني وزير الثقافة آنذاك، الذي اعتبر الفكرة صعبة بسبب شروخ قديمة في رجل التمثال.
لكن الظروف تغيرت حين سمع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في أحد المؤتمرات تعليقًا من شركة فرنسية تشكك في قدرة المصريين على نقل تمثال رمسيس، فما كان منه إلا أن قال: «هنقله في 4 شهور!».
وهنا عادت الفكرة للحياة. صُنعت معدات خاصة، واستُعين بونش ضخم بقدرة رفع 475 طنًا من المقاولون العرب. وبُني مجسم تجريبي بنفس الحجم تقريبًا لاختبار الفكرة، وجاءت النتيجة مبهرة، التمثال يتحرك واقفًا دون أي ضرر.
في يوم التنفيذ، احتشدت الكاميرات والإعلاميون والجمهور ينتظرون لحظة السقوط، فيما طلب المهندس من سائق الونش أن يتحرك ببطء ثم يفرمل فجأة ليراقب توازن التمثال.
ومع أول حركة، مالت الكتلة العملاقة قليلًا للخلف ثم عادت لمكانها بثبات، فصرخ الناس ظنًا أن تمثال رمسيس كاد يسقط، لكن الحقيقة أن هذا ما كان متوقعًا في التصميم نفسه.
تم النقل بنجاح باهر، وسط دهشة العالم. لكن بينما تصدر الوزراء والمسؤولون المشهد أمام الكاميرات، وقف المهندس أحمد حسين في الظل، بعيدًا عن الأضواء، فحين سأله أحد المراسلين لمن يهدي هذا الإنجاز قال بهدوء: «مهديهوش لحد.. أهديه لنفسي.. العمل ده بتاعي أنا.. أنا بهديه للمهندسين المصريين والعرب، وبقولهم محدش مديكم فرصة ومحدش حيديكم فرصة.»
رحل المهندس أحمد محمد حسين عام 2017، تاركًا وراءه علامة خالدة في سجل التاريخ، جعلت من تمثال رمسيس رمزًا ليس فقط لعظمة الفراعنة، بل أيضًا لعظمة المهندسين المصريين المعاصرين الذين يواصلون كتابة فصول المجد في صمت.











0 تعليق