لأول مرة.. «القاعدة» على مرمى حجر من حكم دولة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تعيش مالي اليوم أخطر لحظاتها منذ الاستقلال، بعدما اقتربت العاصمة باماكو من السقوط في قبضة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الذراع الإقليمي لتنظيم القاعدة، التي باتت تفرض حصارًا خانقًا على المدينة، وتتحكم في شرايين الحياة من الوقود والغذاء والمواصلات.

تقرير «وول ستريت جورنال» الأخير، الذي نقلته «العربية نت» عن مسؤولين غربيين وأفارقة، كشف أن سقوط باماكو إن حدث، فسيكون المرة الأولى التي تُدار فيها عاصمة إفريقية بالكامل من قبل تنظيم إرهابي مُصنف دوليًا، وهو تطور ينذر بتغيير جذري في معادلة الأمن الإفريقي والعربي معًا.

التحول في مالي لا يمكن قراءته كحدث محلي، فالدولة الواقعة في قلب الساحل الإفريقي تشكل نقطة تماس حساسة تربط شمال القارة بغربها، ومن ثم فإن اهتزازها يعني أن القارة بأكملها تدخل مرحلة جديدة من السيولة الأمنية، حيث تتقاطع الجغرافيا مع الإرهاب والمصالح الدولية.

إن ما يجري في باماكو يفتح الباب أمام القاعدة للوصول إلى سواحل الأطلسي، ويقربها من خطوط التجارة العالمية ومصادر الطاقة واليورانيوم في النيجر وبوركينا فاسو، وهي موارد تمثل مطمعًا استراتيجيًا لكل من التنظيمات الإرهابية والقوى الدولية على السواء.

اللافت أن الجماعة المتشددة لا تتبع أسلوب المواجهة المباشرة، بل ما وصفه الخبراء باستراتيجية «الخنق البطيء»، وهي نسخة إفريقية من التكتيك الذي استخدمته طالبان في كابل، حصار طويل، إنهاك داخلي، وشلل تدريجي لمؤسسات الدولة حتى تسقط العاصمة دون معركة. 

ارتفعت أسعار الوقود إلى ثلاثة أضعاف، وأغلقت المدارس والمستشفيات ومحطات الكهرباء، بينما تقف قوات الجيش عاجزة أمام نقص الإمدادات. هكذا يتحول الوقود إلى سلاح، والحصار إلى معركة نفسية قبل أن يكون عسكرية.

وراء هذا المشهد، يتضح أن الإرهاب العالمي يعيد تموضعه في القارة الإفريقية بعد تراجعه في المشرق. فمع انشغال العالم بالحرب في أوكرانيا، وتصاعد الأزمات في الشرق الأوسط وما يحدث في غزه، انسحب الغرب تدريجيًا من الساحل الإفريقي، تاركًا فراغًا أمنيًا ملأته التنظيمات المتشددة، مستفيدة من هشاشة الدول وضعف التنمية والفساد المزمن. 

الأمم المتحدة كانت قد حذّرت منذ منتصف العام من أن جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» تستلهم تجربة طالبان باعتبارها «خارطة طريق» نحو الحكم، وتسعى لتقديم نفسها كسلطة أمر واقع لا مجرد ميليشيا مسلحة، وهو تحول بالغ الخطورة لأنه يفتح الباب أمام «أفغنة» القارة السمراء بأكملها.

ومصر، التي تتابع عن قرب تطورات المشهد الإفريقي، تدرك أن ما يحدث في مالي لا يخص حدودها الجنوبية فقط، بل يمس الأمن القومي للأقليم كله. فتمدد التنظيمات الإرهابية في الساحل والصحراء يهدد بخلق ممر مفتوح للعنف يمتد من غرب إفريقيا حتى البحر المتوسط، مرورًا بدول الجوار العربي.

لهذا، جاءت التحركات المصرية مبكرة وحاسمة؛ دعم سياسي ودبلوماسي لدول الساحل، وتعاون استخباري وعسكري لتدريب الكوادر الإفريقية في الأكاديميات المصرية، واستضافة مركز مكافحة الإرهاب التابع لمنظمة الساحل والصحراء (CEN-SAD) في القاهرة كمظلة إقليمية لتنسيق الجهود المشتركة.

وقد أكد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، مؤخرًا استعداد القاهرة الكامل لدعم جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا، سواء عبر بناء القدرات أو عبر التنمية التي تعتبرها مصر خط الدفاع الأول ضد التطرف.

بهذا المعنى، لا تتعامل مصر مع الإرهاب الإفريقي كملف أمني فحسب، بل كتهديد استراتيجي متداخل مع استقرار الإقليم العربي كله. فالساحل والصحراء ليسا مجرد جغرافيا بعيدة؛ إنهما الامتداد الطبيعي للأمن العربي، والخطر القادم من الجنوب لا يقل تهديدًا عن الأزمات المشتعلة في الشرق.

من هنا يبرز الدور المصري كقوة توازن حقيقية في القارة، قادرة على الجمع بين الأدوات الأمنية والفكرية والتنموية لمواجهة الجذور لا الأعراض.

والجدير بالذكر هنا أن برنامج«الضفة الأخرى»؛ كان من أوائل المنابر الإعلامية التي فتحت ملف تمدد الجماعات المتطرفة في إفريقيا، محذرًا منذ عامين من خطورة ترك القارة الإفريقية فريسة للفراغ الأمني  لأنه  سيجعلها مركزًا لإعادة إنتاج للتنظيمات المسلحة بعد سقوط معاقلها في المشرق.

البرنامج ناقش بوضوح في حلقاته السابقة كيف تتحرك التنظيمات الجهادية بين غرب إفريقيا وشرقها وفق خطة ممنهجة، تستهدف إسقاط الدول من الداخل واستبدالها بأنظمة ظل تديرها من الكهوف أو الصحارى.

تلك التحذيرات كانت وقتها، أقرب إلى نبوءة إعلامية، لكنها اليوم واقع يراه العالم مرأي العين في باماكو.

فإن القارة السمراء ستدخل مرحلة «الأفغنة»، أي تحويلها إلى أراضٍ رخوة لتصدير الإرهاب، وتغذية حروب الوكالة والصراعات العابرة للحدود

إن ما يحدث في مالي ليس مجرد أزمة داخلية ولا صراعًا بين جيش ومتمردين، بل هو جرس إنذار للقارة بأسرها. فحين تقترب القاعدة من حكم دولة إفريقية كاملة، فهذا يعني أن الإرهاب عاد بثوب جديد؛ تنظيم أكثر ذكاءً، يتحرك ببطء، يستخدم الاقتصاد كسلاح، ويصوغ تحالفات محلية تحت شعارات الحماية والعدالة الدينية.

هذه الصيغة، إذا لم تُواجه بتعاون عالمي، عربي، إفريقي جاد، قد تجعل من إفريقيا مركز ثقل جديد للإرهاب العالمي لعقد كامل قادم.

وقد أثبت التاريخ أن التنظيمات المتطرفة تتغذى على الصمت، وأن الفراغ هو البيئة المثالية لانتشارها. وحين ينهار الجنوب الإفريقي، فإن الشمال العربي سيدفع الثمن.

لهذا لم تكن تحذيرات برنامج الضفة الأخري من فراغ، بل من وعي استراتيجي ومعلوماتي وتحليلي عميق يرى أبعد من حدود الخريطة.

فالمعركة القادمة، كما تقول الوقائع، لن تُحسم بالسلاح فقط، بل بالوعي، وبإعادة بناء الدولة الإفريقية القادرة على الصمود أمام الإغراءات والاختراقات الفكرية والمادية على السواء.

وهكذا، تبدو مالي اليوم كابل الأمس؛ عاصمة تنهكها الأزمات وتطوقها الجماعات وهو ما ينذر بسقوطها.
فـ سقوط باماكو – إن وقع – لن يعني فقط انهيار دولة هشة، بل سيكون المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يحكم فيها تنظيم إرهابي معترف بانتمائه للقاعدة دولة إفريقية كاملة.

إنها لحظة فارقة تنذر بـ«شرعنة الإرهاب» على أرضٍ كانت إلى وقت قريب حاضنة للتعدد الثقافي والديني
فتحذيرات برنامج «الضفة الأخرى»، قبل عامين من خطر «أفغنة إفريقيا» لم تكن إلا قراءة استباقية لمشهد بدأ يتجسد اليوم أمام أعين العالم، في وقتٍ يبدو فيه أن القاعدة باتت على مرمى حجر من حكم دولة.

رابط حلقة برنامج «الضفة الأخرى»: 

https://www.albawabhnews.com/4878381

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق