تشهد الضفة الغربية المحتلة واحدة من أوسع موجات التوسع الاستيطاني في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، في ظل حكومة بنيامين نتنياهو الحالية، المدعومة من اليمين الديني المتطرف.
و تحولت هذه الحكومة إلى أداة مباشرة لتكريس الضم الزاحف للأراضي الفلسطينية، تحت غطاء مشاريع بناء ضخمة، و مصادرات متسارعة، وإجراءات ميدانية تهدف لتغيير الطابع الجغرافي والسياسي للضفة، بما يمنع عمليا قيام دولة فلسطينية مستقبلًا.
منذ أواخر عام 2022 وحتى اليوم، نفذت الحكومة الإسرائيلية أو صادقت على بناء ما يقارب 48 ألف وحدة استيطانية في الضفة الغربية، مع توقعات بارتفاع العدد إلى 50 ألف وحدة بنهاية العام الحالي.
هذه الأرقام غير المسبوقة توازي ما تم تنفيذه خلال عقود سابقة مجتمعة، ما يعكس حجم التوجه نحو “الضم الفعلي” للأراضي المحتلة دون إعلان رسمي، في ظل صمت أو تواطؤ دولي واضح.
سياسة الضم الزاحف وتكريس السيطرة الميدانية
تظهر الوقائع أن إسرائيل لم تعد تحتاج إلى قانون رسمي لضم الضفة، إذ يتم الأمر فعليًا من خلال سلسلة من الخطوات الإدارية والميدانية، مثل مصادرة الأراضي، شرعنة البؤر الاستيطانية العشوائية، وتوسيع شبكات الطرق والبنى التحتية التي تخدم المستوطنين فقط.
وخلال ولاية حكومة نتنياهو الحالية، تمت مصادرة نحو 26 ألف دونم من أراضي الضفة عبر إعلانها "أراضي دولة"، مقارنة بـ 28 ألف دونم فقط صودرت بالطريقة ذاتها خلال السبعة والعشرين عامًا السابقة. هذه المقارنة وحدها تبرز حجم القفزة الاستيطانية التي يقودها الوزير بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والمسؤول عن ملف الاستيطان في وزارة الأمن.
ويصف رئيس طاقم مراقبة الاستيطان في حركة “سلام الآن”، يوني مزراحي، ما يجري بأنه “ضم فعلي ملموس على الأرض”، مشيرًا إلى أن القيود الأميركية الشكلية على “الضم القانوني” لم تمنع إسرائيل من تطبيقه عمليا بوسائل أخرى أكثر تأثيرًا.
الدور المركزي لسموتريتش في تصعيد الاستيطان
يعد الوزير بتسلئيل سموتريتش الشخصية الأكثر تأثيرًا في توجيه سياسة الاستيطان الحالية. فهو يجمع بين سلطتين مؤثرتين: كونه وزير المالية، وكمسؤول فعلي عن الإدارة المدنية في الضفة الغربية، ما منحه القدرة على التحكم في كل مشاريع البناء والمصادرة.
منذ بداية ولايته، عمل سموتريتش على تحطيم الأرقام القياسية في الإعلان عن “أراضي دولة” وفي المصادقة على بناء وحدات استيطانية جديدة. ووفق صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن معدل البناء في عهد هذه الحكومة بلغ 17 ألف وحدة سنويا، مع ازدياد كبير في عام 2025، الذي يعد الأوسع في النشاط الاستيطاني منذ احتلال الضفة عام 1967.
ويؤكد مراقبون أن سموتريتش يسعى إلى تثبيت أكبر قدر ممكن من الحقائق الاستيطانية قبل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، سواء أُجريت في موعدها أو تمّ تبكيرها. فالمشاريع التي تُقرّ اليوم قد تُنفذ لاحقًا حتى لو تغيرت الحكومة، لتبقى نتائجها ثابتة على الأرض.
الأبعاد الجغرافية والسياسية للمشاريع الاستيطانية
الهدف المركزي لهذه المشاريع، كما توضح الصحف الإسرائيلية نفسها، هو منع قيام دولة فلسطينية عبر تمزيق التواصل الجغرافي بين مدن وبلدات الضفة. وتعد المنطقة E1 الواقعة بين القدس ومستوطنة “معاليه أدوميم” مثالا صارخا، إذ صادقت حكومة نتنياهو في أغسطس الماضي على بناء 3400 وحدة سكنية فيها.
هذا المشروع تحديدا يعتبر ضربة قاضية لأي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متصلة، إذ يؤدي إلى فصل شمال الضفة عن جنوبها. وقد وصف سموتريتش المشروع بأنه “يدفن فكرة الدولة الفلسطينية”، وهو تصريح يوضح بجلاء النية السياسية وراء البناء وليس مجرد توسع عمراني.
كما تمت في مايو الماضي المصادقة على إقامة 22 بؤرة استيطانية جديدة، يجري العمل على شرعنتها وربطها بالبنية التحتية من كهرباء ومياه وطرقات.
وقد خصصت مئات ملايين الشواكل لمشاريع المسح والمصادرة في المناطق المصنفة “ج”، بحيث يطلب من الفلسطينيين وحدهم إثبات ملكية أراضيهم، بينما تعلن الأراضي غير المثبتة “أراضي دولة” لصالح التوسع الاستيطاني.
البنية التحتية كأداة للضم الميداني
لم تقتصر سياسة الحكومة على البناء داخل المستوطنات، بل امتدت إلى توسيع شبكة الطرق الاستيطانية التي تحول الضفة فعليا إلى شبكة من الجزر المعزولة. فقد شرعت سلطات الاحتلال في شق طرق سريعة (أوتوسترادات) جديدة، وتوسيع شوارع تربط المستوطنات الكبرى ببعضها وبالقدس، على حساب الأراضي الفلسطينية.
وتعتبر هذه الطرق من الأدوات الأكثر فاعلية في فرض الضم الميداني، إذ تكرس نظام فصل عنصري فعلي بين المستوطنين والفلسطينيين: طرق خاصة للمستوطنين، وأخرى ضيقة خاضعة للقيود والحواجز للفلسطينيين. هذه البنية المادية تحوّل الاحتلال إلى واقع لا يمكن فصله مستقبلاً، حتى في حال وجود تسوية سياسية نظرية.
الموقف الأميركي ومفارقة "الضم المزدوج"
رغم التصريحات الأميركية الرافضة للضم الرسمي، خاصة خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلا أن الواقع على الأرض يثبت أن واشنطن سمحت لإسرائيل بمواصلة التوسع دون رادع فعلي. ففي تحليل بصحيفة هآرتس، كتب الصحفي جاك خوري عن “مفارقة ترامب”، موضحا أن الإدارة الأميركية عارضت الضم بالقول، لكنها تغاضت عنه بالفعل.
ويشير خوري إلى أن الحياة اليومية للفلسطينيين هي الدليل الأوضح على هذا “الضم الفعلي”، إذ تصادر أراضيهم، وتقام البؤر الاستيطانية، ويحاصرون بمئات الحواجز، بينما تلتزم واشنطن الصمت. فالمعارضة الأميركية كانت رمزية، يقابلها تواطؤ سياسي سمح بترسيخ نظام فصل عنصري داخل الضفة الغربية.
وبهذا، تحول خطاب “رفض الضمّ” إلى مجرد غطاء دبلوماسي يمكن إسرائيل من مواصلة سياساتها دون تكاليف سياسية أو عقوبات.
سموتريتش وثقته بتغيير الموقف الأمريكي
في ضوء هذه الازدواجية، لا يخفي سموتريتش قناعته بأن الإدارة الأمريكية، وخصوصا الرئيس ترامب، قد تتراجع عن موقفها الرافض للضم الرسمي في المستقبل. ففي تصريحات له عبر منصة “إكس”، قال إنه “مقتنع تماما بأن ترامب سيغير رأيه عندما يدرك أهمية سيادة إسرائيل على أراضي الضفة الغربية، مضيفا أن دعم إسرائيل الحقيقي يعني دعم الضمّ ورفض قيام الدولة الفلسطينية.
ويظهر هذا التصريح أن اليمين الإسرائيلي يرى في الموقف الأمريكي تكتيكًا قابلًا للتغيير، وليس التزاما استراتيجيا. فالمستوطنون وحلفاؤهم في الحكومة يسعون إلى فرض حقائق على الأرض تجعل أي حكومة إسرائيلية أو إدارة أمريكية مستقبلية عاجزة عن التراجع عنها.
تداعيات السياسات الإسرائيلية على مستقبل الدولة الفلسطينية
إن النتائج الميدانية لهذه السياسات خطيرة للغاية. فالخرائط الجديدة التي ترسمها الجرافات الإسرائيلية في الضفة تقطع أوصال الأراضي الفلسطينية، وتحول المدن والقرى إلى جزر منفصلة ومحاطة بالمستوطنات. ومع استمرار شرعنة البؤر وربطها بالبنى التحتية، يصبح من المستحيل إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافيًا.
كما أن تحميل الفلسطينيين عبء إثبات ملكية أراضيهم، في ظل غياب سجلات رسمية حديثة ومصادرات متكررة منذ عقود، يجعلهم في مواجهة قانونية غير متكافئة أمام الإدارة المدنية التابعة للاحتلال. وبمجرد إعلان الأرض “أراضي دولة”، يُمنع الفلسطيني من استغلالها أو البناء عليها.
هذه السياسة تمثل جوهر “الضمّ الزاحف”: السيطرة الكاملة دون إعلان، بحيث يصبح الاحتلال دائمًا بحكم الواقع، حتى لو لم يُشرعن قانونيًا.









0 تعليق