المنيا.. حين تتقاطع نار التعصب مع ظل الجبل

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

من يقترب من محافظة المنيا سوف يعرف أن شيئاً غامضاً يسكن بين طيات جبالها الصامتة، وبين قراها المتناثرة على ضفاف النيل، محافظة جميلة، زاخرة بالآثار والمبدعين والعمال والطلبة، لكنها في الوقت ذاته صارت مرادفاً في المخيلة العامة لكل خبر مؤلم يحمل رائحة التعصب الطائفي أو الاضطراب الاجتماعي.

 بين وقت وآخر، تخرج المنيا إلى الواجهة بحدث جديد.. وآخر لقطة هي شاب مسيحي أحب فتاة مسلمة، ولذلك انعقدت جلسة عرفية قضت بتغريمه، أما الذاكرة فهي مازالت تتذكر حادثة "سيدة الكرم" التي هزت الضمير المصري عام 2016، وتتذكر أيضا الكنائس التي تم حرقها عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة عام 2013 حين شهدت المنيا وحدها حرق وتخريب أكثر من 20 كنيسة ومنشأة مسيحية.

سؤال الساعة

 ما الذي يجعل هذه المحافظة تحديداً، دون غيرها، مسرحاً متكرراً لمثل هذه المآسي؟ ولماذا تنمو فيها نبتة التطرف رغم أن أرضها كانت يوماً مهد التسامح والديانات القديمة؟ سوف اجتهد في الإجابة وأقول إن المنيا مثل كثير من محافظات الصعيد، تعاني من مشكلات اجتماعية واقتصادية تراكمت عبر عقود طويلة مثل الفقر، والبطالة، وضعف التعليم، وهي عوامل خصبة ومغرية لدعاة التشدد بالتمدد، حين يكون المستقبل غامضاً والفرص محدودة، يصبح الخطاب الديني المتشدد ملاذاً نفسياً لمن يبحث عن معنى أو انتصار وهمي.

 توجد في بعض قرى المنيا، خصوصاً في المراكز الجنوبية مثل دير مواس وملوي وأبو قرقاص، تركيبة قبلية وطائفية معقدة، إذ تتجاور أسر مسيحية ومسلمة منذ مئات السنين، تربطهم علاقات عمل وجيرة، لكنهم يعيشون أحياناً تحت ضغط إرث طويل من الشك المتبادل تغذيه الشائعات والمزايدات الدينية.

 وحين تقع حادثة بسيطة، تتحول شرارة صغيرة إلى حريق، خاصةً في ظل غياب لغة القانون وسيطرة "الجلسات العرفية" التي تتغلب فيها أحياناً منطق القوة على العدالة.

"التحكيمات" العرفية 

الحادثة الأخيرة التي شهدتها إحدى قرى المنيا، حيث تم تغريم شاب مسيحي مبلغا كبيراً بسبب علاقة عاطفية مع فتاة مسلمة، ليست استثناءً بل حلقة في سلسلة طويلة من "التحكيمات" العرفية التي تُقام بديلاً عن القانون، هذه الجلسات رغم ما يقال عنها من تهدئة للخواطر، تُكرس في الواقع منطق العقاب الجماعي وتصيب هيبة الدولة بالضعف، إذ يتحول المواطن من صاحب حق إلى طرف في مساومة قبلية.

 وتاريخ المنيا الحديث مليء بمثل هذه الجلسات التي يتم عقدها عقب كل توتر، وغالباً ما تنتهي بتهجير أسر مسيحية من قراها أو فرض غرامات مالية عليها، وكأن التعايش يمكن أن ينمو بالترهيب لا بالثقة المتبادلة.

في عام 2017، انطلقت من تلك الجبال سيارة الإرهابيين الذين هاجموا حافلة الأقباط المتجهة إلى دير الأنبا صموئيل، فقتلوا زوار الكنيسة في مشهد مأساوي هز البلاد، لقد ظلت الجبال المحيطة بالمنيا ملاذاً طبيعياً لهؤلاء المتشددين، حيث تعقبتهم القوات الأمنية في عمليات مطولة، وراء كل هذا المناخ، يكمن ضعف التعليم وثقافة الإقصاء التي تسللت إلى عقول بعض المعلمين، الذين ينقلون لأبنائنا رسائل غير مباشرة بأن المختلف دينياً هو "آخر" لا يمكن تبادل الثقة معه.

 في بعض القرى، نشهد مدارس ذات طابع ديني مغلق، يلقن الأطفال دروساً تزرع فيهم التمايز لا الوحدة، ومع مرور الوقت، ينمو هؤلاء الصغار وهم يحملون داخلهم تصوراً ضيقاً عن الوطن والمواطنة.

اختفاء النشاط الثقافى

أما النشاط الثقافي، واختفاء المسرح والمكتبة، وانطفاء دور قصور الثقافة، كلها عوامل أفرغت كل المحافظات التي تشبه المنيا من روحها الإنسانية، وتركتها فريسة لخطاب بعض المساجد المتشدد أو الغرف المظلمة على الإنترنت.

حين تقع حادثة في المنيا، تنتقل أخبارها بسرعة البرق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها كثيراً ما تصل إلينا وهي محملة بالمبالغات والتهويل. تسهم هذه الموجة من التضخيم في إشعال المشاعر وإثارة الكراهية، إذ نرى الأحداث في صورة معركة دينية وليس خلافاً اجتماعياً يمكن احتواؤه، وفي المقابل يغيب الإعلام المحلي الجاد القادر على رواية الحكاية من الداخل، بموضوعية وإنصاف، ليحل محله خطاب انفعالي يزيد النار اشتعالاً.

المنيا ليست كلها متطرفة، هذه حقيقة لا بد من قولها، فالمحافظة نفسها أنجبت شعراء ومفكرين وأطباء وعلماء، وهي تحتضن بين قراها آلاف القصص عن الجيرة والمحبة بين المسلمين والمسيحيين، لكن المناطق المهمشة، التي تعيش في عزلة وتفتقر إلى الخدمات الأساسية، تُصبح أرضاً خصبة لأي فكر متشدد.

لا يمكن فهم المنيا دون التوقف أمام مرحلة التسعينيات حين كانت معقلاً رئيسياً للجماعة الإسلامية، التي خاضت مواجهات دامية مع الدولة، في تلك الفترة، سالت دماء كثيرة في قرى مثل دلجا وسمالوط وملوي، وتحوّلت المساجد إلى منابر دعوية تحرض ضد الآخر.

 ورغم نجاح الدولة في تفكيك التنظيمات الإرهابية وإطلاق مراجعات فكرية في السجون، فإن بقايا الفكر المتشدد ظلت كامنة في بعض النفوس، تنتظر الظروف لتعود بصيغ جديدة عبر مواقع التواصل،

العلاج الحقيقى

 رغم تدخل الدولة والقيادة السياسية لاحتواء تلك الحوادث، إلا أن آثارها النفسية تظل قائمة.. الدولة بذلت جهوداً واضحة في السنوات الأخيرة لاحتواء هذه الظاهرة، تمت استعادة الأمن في الجبال، وإعادة بناء الكنائس بتوجيه مباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتم إطلاق مبادرات تجمع رجال الدين من الجانبين في حوارات مستمرة.

 لكن ما زال الطريق طويلاً، فالتطرف لا يمكن هزيمته بالسلاح وحده، بل بالثقافة والتعليم والعمل، وإذا كنا نبحث عن علاج حقيقي، فعلينا أولاً إنهاء ثقافة الجلسات العرفية التي تكرس الشعور بالظلم، مع تجديد الخطاب الديني في المساجد والكنائس معاً، ليؤكد أن الوطن ليس مساحة صراع بل هو بيت واحد للجميع، وكذلك دعم الإعلام المحلي ليكون صوتاً للعقل لا للغضب، عبر تدريب الشباب على الصحافة الميدانية ومهارات الحوار.

 وأخيراً، يجب أن يشعر كل مواطن في المنيا، مسلماً كان أو مسيحياً، أن الدولة قريبة منه، وأن العدالة ليست شعاراً بل ممارسة يومية.

 من هذه المحافظة خرج الإرهابي، نعم، لكنها أنجبت أيضاً الطبيب والمعلم والشاعر، وما بين الجبل والنهر، يبقى السؤال معلقاً هل نترك النار تلتهم الظل، أم نعيد للظل نوره ليحجب النار؟

 الإجابة ليست في الشعارات، بل في فعل يومي هادئ وشجاع يعيد للمنيا وجهها الجميل الذي شوهته سنوات الفقر والتعصب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق