تستعد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في وادي النطرون، لاستضافة اجتماع لجنة الإيمان والنظام التابعة لمجلس الكنائس العالمي (WCC) غدا الخميس الموافق 23 أكتوبر 2025، في حدثٍ كنسيّ يعكس روح الحوار والانفتاح.
ويأتي هذا اللقاء قبيل افتتاح المؤتمر العالمي السادس للإيمان والنظام، ليشكّل مساحةً للتلاقي بين الكنائس من مختلف التقاليد، وتبادل الرؤى حول الحضور المسيحي في العالم المعاصر، وتعزيز الحوار المشترك من أجل خدمة الإنسان وبناء جسور التفاهم والسلام.
احتفال بمرور 1700 عام على مجمع نيقية
يحمل الحدث رمزية خاصة، إذ يتزامن مع الذكرى الـ1700 لانعقاد مجمع نيقية المسكوني الأول (325م)، الذي أرسى أسس الإيمان الجامعة وصاغ قانون الإيمان النيقاوي الذي تتلوه الكنيسة في صلواتها حتى اليوم.
وبين نيقية ووادي النطرون، يمتدّ خيطٌ من نورٍ وحوارٍ وشهادةٍ للحق، يجمع الكنائس في مسيرةٍ نحو التلاقي وتجديد الرسالة المشتركة في عالمٍ يزداد انقسامًا وتعقيدًا.
تحضيرات المؤتمر العالمي السادس
خلال الاجتماع، تستعرض اللجنة التحضيرات النهائية للمؤتمر، وتناقش نتائج مجموعات الدراسة اللاهوتية، وتضع خارطة طريق جديدة لمرحلة ما بعد المؤتمر، تركّز على تعزيز الحوار البنّاء وخدمة الإنسان والمجتمع، ومواجهة خطابات الكراهية والانغلاق الديني والثقافي بروحٍ من الاحترام المتبادل والإصغاء المشترك.
وقالت الدكتورة ستيفاني ديتريش، رئيسة لجنة الإيمان والنظام بمجلس الكنائس العالمي: "إن الاحتفال بمرور 1700 عام على مجمع نيقية يذكّرنا بإيماننا المشترك ورسالتنا الواحدة كجسد المسيح الحي. في عالمٍ تمزّقه الانقسامات، نحن مدعوون إلى السير معًا في مسار الحوار والمصالحة، ليقودنا الروح القدس نحو تمييز مشترك يسهم في بناء عالمٍ أكثر عدلاً وسلامًا."
البعد الرمزي لاستضافة مصر
وأوضح الدكتور أندريه يفتيتش، مدير لجنة الإيمان والنظام، أن الاجتماع في مصر "لا يقتصر على التحضير للمؤتمر العالمي، بل يحمل بعدًا رمزيًا وروحيًا يتمثل في اللقاء بين الكنائس في أرضٍ غنية بتاريخها الروحي العريق"، مضيفًا: "إن المؤتمر السادس يشكل لحظة تاريخية للتأمل المشترك في كيفية تجديد حضورنا المسيحي في العالم المعاصر. نحن ممتنون للكنيسة القبطية الأرثوذكسية على ضيافتها الكريمة ومشاركتها الفاعلة التي تعكس روح الخدمة والانفتاح."
جذور المشاركة القبطية في الحركة المسكونية
لم تكن استضافة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية لهذا اللقاء العالمي حدثًا عابرًا، بل امتدادًا لمسيرةٍ تاريخية بدأت منذ عام 1937م، عندما شاركت الكنيسة لأول مرة في مؤتمري الإيمان والنظام والحياة والعمل في أدنبرة وأكسفورد، اللذين مهّدا لتأسيس مجلس الكنائس العالمي سنة 1948م.
في ذلك العام، تلقّى قداسة البابا يؤانس التاسع عشر دعوة رسمية للمشاركة، فانتدب القمص إبراهيم لوقا ممثلًا عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ليكون أول صوت قبطيٍّ حاضر في المحافل المسكونية، حاملاً شهادة الكنيسة لإيمانها الآبائي وعمقها اللاهوتي.
وقدّم القمص إبراهيم لوقا خلال المؤتمر بحثًا باللغة الإنجليزية عن الكنيسة القبطية، نال إعجاب المشاركين حتى قررت سكرتارية المؤتمر طباعته وتوزيعه رسميًا كوثيقة تعريفية بالكنيسة القبطية ودورها في حفظ التراث المسيحي.
القمص إبراهيم لوقا: "الحوار ليس تنازلاً عن الإيمان"
ورغم الانتقادات التي وُجهت له، أجاب القمص إبراهيم لوقا قائلاً: "اللقاءات المسكونية ليست تنازلاً عن الإيمان، بل فرصة للشهادة لكنيستنا القبطية وخدمتها للعالم بروح المحبة والتفاهم."
بفضل تلك المبادرات، تم اختياره عضوًا في اللجنة الدائمة لحركة الإيمان والنظام، ثم في اللجنة المركزية الأولى لمجلس الكنائس العالمي عام 1948م، ممثلًا للكنيسة القبطية كإحدى الكنائس المؤسسة للمجلس.
حضور قبطي متجدد عبر الأجيال
تواصلت المسيرة مع القمص مكاري السرياني – الذي أصبح لاحقًا نيافة الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة – وشارك في الجمعية العمومية الثانية لمجلس الكنائس العالمي في إيفانستون بالولايات المتحدة (1954)، وكرّس حياته لرسالة الكنيسة في خدمة الإنسان وبناء الجسور بين الشعوب والكنائس حتى نياحته عام 1981م.
وادي النطرون... منارة للحوار والسلام
يحمل اجتماع لجنة الإيمان والنظام في وادي النطرون أبعادًا روحية وإنسانية عميقة؛ فهو لقاء بين جذور الإيمان الأولى في نيقية ورسالة الكنيسة في زمن التحديات. واستضافة الكنيسة القبطية لهذا الحدث هي تجديد لدورها التاريخي في تعزيز التفاهم وتشجيع الحوار من أجل السلام وخدمة المجتمع.
كما يُعدّ هذا الاجتماع الأول من نوعه الذي يُعقد في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، ما يجسّد رغبةً صادقة في مواجهة التعصب والانقسام، وتأكيد الدور الذي يمكن أن تؤديه الكنيسة في بناء السلام وخدمة الإنسان.
من أدنبرة إلى وادي النطرون: مسيرة ممتدة من الحوار والإيمان
من أدنبرة 1937 إلى وادي النطرون 2025، تمتدّ المسيرة القبطية كجسرٍ حيّ بين الكنائس والشعوب، حاملةً رسالة إنسانية تدعو إلى التلاقي والحوار وخدمة الإنسان.
فالكنيسة التي حفظت الإيمان بدماء شهدائها، تقدّم اليوم للعالم وجهًا حيًا للإيمان العامل بالمحبة، مؤكدة أن الحضور المسيحي لا يُقاس بالاتفاقات العقائدية وحدها، بل بقدرة الكنيسة على صنع السلام وبناء الجسور ومساندة الإنسان في ضعفه وألمه.
وهكذا، تظلّ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – من نيقية إلى وادي النطرون – شاهدًا أمينًا وشريكًا فاعلًا في مسيرة الرجاء، وصوتًا صادقًا في وجه الكراهية والانغلاق، وحاضنةً للحوار والخدمة في سبيل الإنسان والمجتمع.

































0 تعليق