مكتبة الإسكندرية القديمة.. ذاكرة الإنسانية بين التنوير والإقصاء

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم تكن مكتبة الإسكندرية القديمة مجرد مبنى عتيق على شاطئ المتوسط ولا مجرد خزانة ضخمة للكتب والمخطوطات، بل جسدت أعظم المحاولات الإنسانية لتوحيد الشرق والغرب فى بوتقة واحدة من المعرفة والثقافة. كان تأسيسها على يد "ديمتريوس الفاليري" ورعاية البطالمة فاتحة لعصر جديد، امتزجت فيه العلوم والفلسفات والأديان، وتلاحقت حضارات ما بين النيل والبحر، ليصنع الإنسان بارقة فى سجل الحضارة لا تزال شعلتها حية تشهد على أن العلم كان ولا يزال رحلة جماعية عابرة للحدود والأعراق. فكيف ولدت هذه المكتبة، ومن أسهم بنهضتها؟ ولماذا كان مصيرها الفناء بعد أن كانت منارة ونبراسًا للأمم؟.

يُعد "ديمتريوس الفاليري" المؤسس الأول لمكتبة الإسكندرية وأباها الروحي، فقد كان سياسيًا وفيلسوفًا أثينيًا رافق الإسكندر الأكبر خلال سنوات تعليمه على يد حكيم الفلاسفة الإغريقيين "أرسطو". غادر ديمتريوس أثينا مضطرًا فى عام ٣٠٠ قبل الميلاد، متوجهًا نحو المدينة التى أنشأها الإسكندر لتكون عاصمة لإمبراطوريته الشاسعة، والتى جاءت حصيلة فتوحاته التى جمعت بين حضارات الشرق والغرب وامتدت عبر أرجاء العالم المعروف آنذاك. وبينما كان الإسكندر الصرح الذى جمع الأمم ثم تفرقت بعد وفاته، كان ديمتريوس الفاليرى هو الذى أسس مكتبة الإسكندرية، ليبقى أثرها شاهدًا على قدرة هذه المؤسسة أن توحد، عبر القرون، روح الشرق فى معتقداته وثقافته وفنونه مع روح الغرب فى فلسفته وعلومه، وتترك بصمة غنية بالتنوع والثراء على الحضارة الإنسانية حتى اليوم.

كان أول ما أوكل إلى "ديمتريوس" بتنفيذ أمر من حاكم مصر "بطليموس الأول" هو جمع أكبر قدر ممكن من الكتب والمخطوطات والعمل على ترجمة ما أمكن منها إلى اليونانية. ومنذ انطلاق فكرة إنشائها، لم تكن مكتبة الإسكندرية مجرد مستودع للكتب، بل وُلدت كمنارة حضارية عالمية تطل على البحر الأبيض المتوسط، الذى شكّل مركز العالم المعروف آنذاك؛ لتكون مركزًا للإشعاع الثقافى بين الشعوب. لم يقتصر دورها على ذلك فحسب، بل شيّد إلى جوارها صرح علمى آخر يسمى "الموسيون"، الذى كان فى العصور القديمة بمثابة جامعة أو معهد بحثى متكامل، يضم جناحين: أحدهما للعلوم والآخر للآداب.

تولى إدارة الموسيون فيلسوف إغريقى بارز هو "ستراتون اللامبساكي"، الذى كان بدوره أحد تلامذة أرسطو. استدعاه بطليموس الأول حوالى عام ٣٠٠ ق.م ليقوم بمهمة التعليم لابنه وولى عهده. وسرعان ما تحولت المكتبة إلى مركز جذب لعشرات العلماء والفلاسفة والأدباء والحكماء، حتى وصل عددهم إلى نحو مئة، وهو رقم ضخم بمقاييس ذلك الزمان.

وقد توزّع هؤلاء النخبويون إلى فريقين رئيسيين: الأول "الفيلولوجيون" الذين درسوا النصوص والمخطوطات دراسة نقدية مقارنة شملت شتى فروع المعرفة، والثانى فريق "العلماء والفلاسفة" الذين أُزهِرت بمجهوداتهم علوم الدين والفلك والجغرافيا والفيزياء والكيمياء والطب والتشريح والتاريخ والفلسفة، جنبًا إلى جنب مع الشعر والفنون والآداب. ويعرض الكتاب فى فصله الثانى ملخصات مركزة لسير أبرز علماء المكتبة، معرفًا بإسهاماتهم العلمية وابتكاراتهم المميزة.

كان للمكتبة طابع علمى موسوعى يلائم ما حملته على عاتقها من مهام حضارية "فلو أحضر أى إنسان غريب عن مصر أى كتاب حتى ولو كان غير معروف كان لزاما عليه أن يقدمه لينسخ منه الناسخون نسخة تضاف إلى مجموعة الكتب الموجودة بالمكتبة". وكانت المكتبة واحدة من ثلاثة معالم ثقافية عالمية بارزة اشتهرت بها مدينة الإسكندرية وانتشرت بها ثقافيًا عبر العالم. الأول هو ضريح الإسكندر الذى حرص "بطليموس الأول" على نقل جثمانه إلى الإسكندرية. وقد كان الضريح كعبة يحج إليها كل سكان العالم المتأغرق حيث عبد الإسكندر كإله. والثانى هو المركز الرئيس للإله "سرابيس" الذى انتشرت عبادته خارج مصر وفى أنحاء العالم الأغريقى بشكل واسع. ثم "مكتبة الإسكندرية" التى نجحت فى أن تكون كعبة العلم والفلسفة ومركز الانتشار الحضارى والثقافى لعصور وحقب متوالية بعد إنشائها. وقد تعهدها بالاهتمام صاحب فكرة إنشائها "بطليموس الأول" وواصل رعايتها خلفه "بطليموس الثاني" ثم من تلاهم من الأباطرة الرومان، لتنمو قدراتها وتتأكد أهميتها وتتسع شهرتها عبر القرون. وكان من مظاهر اهتمام أباطرة الرومان بتوسعتها وتزويدها بأحدث التجهيزات العلمية والمعمارية ما زودت به من نظام تدفئة مركزية يمد بأنيب عبر الحوائط للحفاظ على جفاف الجو داخل مستودعات الكتب. إذ "لم تكن المكتبة القديمة بالإسكندرية تقل أهمية عن نهر النيل بحال من الأحوال".

وبين يدى كتاب عن مكتبة الإسكندرية وأهم علمائها.. يؤكد الكتاب فكرة تواصل الحضارات. فلم تكن مكتبة الإسكندرية هى الأولى من نوعها عبر تاريخ الحضارة البشرية فقد سبقتها مكتبة أو معهد أو جامعة "أون" الفرعونية القديمة بقرون طويلة و"كانت موطنًا لتعلم الكثير من فلاسفة اليونان القدامى أمثال طاليس وفيثاغورس وديموقريطس وأفلاطون". لكن مكتبة "أون" الفرعونية القديمة كانت مخصصة للكهنة فقط الذين أتقنوا وحدهم فن الكتابة والقراءة وأسرار العلوم والفنون والبناء. أما مكتبة الإسكندرية فقد جسدت، تجسيدًا تاريخيًا وبصورة عملية، فى وجودها وطريقة عملها وأساليب التعليم والتعلم فيها، كل معانى وحدة الإنسانية. فجمعت ما بين الشرق والغرب فى تناغم حى وجميل. وانصهرت من خلال ما قدمته من ثقافة راقية ونظريات فلسفية ومكتشفات علمية ثقافة الغرب الأغريقية (الهلينية) وثقافة الشرق الفرعونية. وقد استأثر هذا المزيج الحضارى الفريد تاريخيا باسم الثقافة "الهلنستية". ويقصد بالمصطلح هذا الحصاد الإنسانى الثرى من العلوم والمعارف الذى تولد على ضفاف المتوسط حيث ربضت مكتبة الإسكندرية، وحيث "فرض على كل عالم يدرس بها أن يدع بها نسخة من مؤلفاته ولأنها أيضا كانت فى معقل العلم ومعقل البردى وأدوات الكتابة (مصر) حيث جمع بها ما كان فى مكتبات المعابد المصرية وما حوت من علم "أون". وكان تحرر علمائها من تابو السياسة والدين والجنس والعرق والتفرقة من أجل البشرية، فالعالم الزائر لها أو الدارس بها لا يسأل إلا عن علمه لا عن دينه ولا قوميته".

معجزات العلم فى مكتبة الإسكندرية

يستعرض الفصل الثانى سير بعض العلماء الذين تلقوا العلم ودرسوا فى "جامعة/مكتبة" الإسكندرية. وهو استعراض لا يدع مجالا للشك فى أنه لو لم يوجد هذا الكيان العلمى الحضارى المهيب، خلال هذه الفترة من عمر التطور الحضارى البشري، ما كان ممكنًا أن تصل البشرية إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم فكرى وعلمى وتقني. فكل جذور العلم الغربى المتقدم الحديث وأصول الفلسفة والدين والعقائد يمكن العثور عليها هناك كما سوف تمتد فيما بعد وتتطور وتزدهر بصورتها الباذخة التى نعهدها فيها اليوم.

فمن بين مشاهير علماء المكتبة الجليلة "إقليدس" (٣٢٥ – ٢٦٥ ق.م) وكان "محبًا لكل من يرغب فى تطوير الرياضيات وحريصًا على عدم إغضاب أحد منه". وهو واحد من أهم علماء الرياضيات عبر العصور، وضع فى كتابه عن "الأوليات" أسس علم الرياضة والهندسة والمنطق الرياضي، وقد ظلت "هندسة إقليدس" المنسوبة إليه تدرس فى المدارس والجامعات طيلة ألفى عام. أما الهندسة الأخرى الجديدة التى اكتشفت بعده (الهندسة غير الإقليدية) فقد نسبت أيضًا إليه.

ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ "هيروفيلوس" (٣٣٥ – ٢٨٠ ق.م) وهو الذى تمكن عبر عمليات التحنيط وتشريح الثدييات من وضع أسس علم التشريح والتشريح المقارن، وأثبت أن المخ، وليس الكبد أو القلب، هو مقر العواطف والذكاء. كما أسس علم أمراض النساء وكان أول من قال بأن المرأة ليست مخلوقًا ناقصًا يقل عن الرجل ولكنها تشابهه تماما من الناحية الفسيولوجية. ووصف حيض المرأة باعتباره عملية جسمية وليس ظاهرة مرضية.

أما "اريستاركوس" (٣١٠ – ٢٣٠ ق.م) فقد سبق باستخدام رياضة إقليدس إلى إثبات مركزية الشمس ودوران الأرض وبقية الكواكب حولها فى هذا الوقت الباكر من عمر العقل الإنساني. وقد واضطهد بسبب نظريته كما اضطهد جاليلو بعده بنحو ألفى عام – وعوقب بتهمة الكفر بسبب اكتشافه.

أما "أرشميدس" (٢٨٧ – ٢١٢ ق.م)، وهو عالم الرياضيات الشهير عبر التاريخ ومكتشف النظريات الأساسية لمركز الثقل للأسطح المستوية والأجسام الصلبة واستخدام الروافع. كما أنه "من أبرز القوانين التى اكتشفها قانون طفو الأجسام داخل المياه والذى صار يعرف بقانون أرشميدس". وقصة اكتشاف هذا القانون هى قصة شهيرة حيث طلب الملك اليونانى "هيرون" منه أن يحدد له نسبة الفضة فى تاجه الذى يحمله فوق رأسه. ومن خلال اجتهاده فى تحديد هذه النسبة، التى كانت مستحيلة التحديد طبقًا لمعارف عصره، إكتشف العالم "أن الفرق بين وزن جسم فى الماء ووزنه فى الهواء يعادل وزن الماء المزاح، ولما كان وزن الماء يعادل حجمه فإنه بذلك قد استطاع أن يحدد حجم الأجسام بوزنها فى الماء والهواء، وبهذا يمكن تحديد الكثافة النوعية للأشياء".

ويأتى الرياضى الفيلسوف "ايراتوسثينوس" (٢٧٥ – ١٩٥ ق.م) ليتمكن من إثبات كروية الأرض رياضيًا ويقوم بقياس دقيق لمحيطها. فى البداية اكتشف "ايراتوسيثنوس" أن أشعة الشمس تتعامد تماما على الأرض فى أسوان فى ظهر يوم ٢١ يونيو من كل عام بواسطة ملاحظته اختفاء ظلال المسلات كما أنه تمكن من رؤية انعكاس صورة الشمس على سطح المياه فى الآبار العميقة "وهى ملحوظات سهلة يمكن أن تمر على أى إنسان، لكن ايراتوسيثنوس لم يكن عاديًا. وضع عصا طويلة رأسية فى الإسكندرية فى نفس اللحظة من يوم ٢١ يونيو ولكنه وجد للعصا ظلًا وتعجب أن أشعة الشمس، لبعدها عن الأرض، تسقط عليها متوازية. فإذا كانت الأرض مسطحة فلابد، وفقا لهندسة إقليدس، أن يكون للعصا الرأسية نفس الظل على الأرض فى أى مكان وهكذا أثبت كروية الأرض". ولم يتوقف الأمر به عند هذا الاكتشاف الهندسى المدهش بل تمكن "ايراتوسيثنوس" عبر قياس زاوية سقوط أشعة الشمس على العصا الرأسية فى الاسكندرية وأسوان فى ظهر يوم ٢١ يونيو وقياس المساحة ما بين أسوان والإسكندرية، وتعادل ٨٠٠ كم، من قياس محيط الأرض. وكان قياسه لا يختلف إلا بنسبة ١٪ عن أدق القياسات الحديثة.

ويأتى على رأس مشاهير علماء مكتبة الإسكندرية الفيلسوف المسيحى "أفلوطين" (٢٠٤ – ٢٧٠م)، وهو رأس مدرسة الأفلاطونية الجديدة أو المحدثة التى مزجت فلسفة الإغريق المثالية والأخلاقية بعقائد الشرق وروحانيته وتطلعه لعبادة الإله الواحد. وقد انطلقت فلسفة "أفلوطين" من فكرته عن وجود يتجاوز العالم الحسى ويقوم على أقانيم ثلاثة هى الواحد الذى هو أعلى من الجميع، الكامل الذى يتجاوز كل الفضائل، الأب الكلى الذى لا يمكن وصفه واللاوجود معا. ثم، الأقنوم الثاني، وهو العقل أو الذكاء الذى يعى ذاته ويعرفها ويتوحد مع الأفكار والملموسات فلا ينفصل عنها حيث أنه "كائن متعدد جذريا". والأقنوم الثالث وهو الروح "تلك التى لا تهدأ، والتواقة إلى الفعل، وهى عامل تناغم لأنها لم تنس وقائع ما فى الأعالي". والروح الإنسانية يمكنها الاهتداء إلى الروح الكونية ومشاركتها عبر التغلب على عواطفها وغرائز ورغبات الجسد، كان الفيلسوف "يخجل من كونه فى جسد".

وعلى العكس من "أفلوطين" الذى أهتم بتدوين نظرياته يأتى أستاذه الفيلسوف "أمونيوس ساكاس" (توفى بين ٢٤٠ و٢٤٥م) والذى يؤكد مؤرخون أنه تنكر لمسيحيته فيما يؤكد آخرون أنه بقى مؤمنا بها. كانت حياة "أمونيوس" غامضة كتعاليمه التى شاء لها أن تكون سرية، وقد كانت عقيدته التى بشر بها توفيقية انتقائية، تستند إلى دراسة أرسطو وأفلاطون وتحاول التوفيق بينهما من خلال صقل روح واحدة تجمع بينهما. وقد كان من شواغل الفيلسوف الهامة فكرة العلاقة بين الروح والجسد، وقد أتى فيها بأفكار لاتزال رائجة حتى اليوم.

وفى ميدان التأريخ يأتى المؤرخ الشهير "أميانوس" (٣٢٠ – ٣٩٥ م)، من عظماء المؤرخين خلال التاريخ حيث يذكر عنه أنه "لم يكتب حدثا تاريخيا واحدا فى حياته مستهلا إياه بأحكام مسبقة أو متأثرا بعاطفة أو متحيزا. ومع أنه كان وثنيا كانت لديه مساحة من التسامح الدينى جعلته منصفا فى حديثه عن المسيحية والمسيحيين الأوائل".

أيضًا من بين مشاهير علماء المكتبة، ويتناول الكتاب سيرهم، "هيباركوس" (١٩٠ – ١٢٠ ق.م) الذى استطاع قياس المسافة بين الأرض والقمر بالحساب الهندسى فاكتشف أنها تتراوح ما بين ٥٧ إلى ٥٩ ضعف من نصف قطر الكرة الأرضية، والرقم الدقيق طبقا للقياسات الحديثة هو ٦٠ ضعفا. و"هيرون" صاحب طريقة حساب الجذر التربيعى التى لاتزال مستعملة حتى اليوم فى الآلات الحاسبة. و"بطليموس" صاحب أهم مرجع فى تاريخ علم الفلك لمدة ١٤ قرنا وهو "الماجسطي". و"جالينوس" الطبيب الذى درس تشريح الأعصاب والعضلات والعظام ووظائفها واكتشف أنه قطع النخاع الشوكى فى مناطق معينة يسبب للإنسان الشلل.

ثم، وأخيرًا، تأتى "هيباتيا" (٣٧٠ – ٤١٥م) الفيلسوفة والعالمة السكندرية التى طبقت شهرتها الأفاق وكانت رمزًا جوهريًا صافيًا لالتقاء العلم والفلسفة. وقد أتى قتلها إعلان أفول للازدهار العلمى والفلسفى لمكتبة الإسكندرية. وقد قتلت الفيلسوفة بيد متعصبين مسيحيين بعد أن أصدر الإمبراطور الرومانى قرار محاربة الوثنية وتحطيم المؤسسات الدينية المصرية القديمة.

لغز الحريق والفناء

يرصد الكتاب تواريخ هامة لحرق وفناء مكتبة الإسكندرية. منها فى العام ٤٨ ق.م وينسب لـ"يوليوس قيصر"، ومنها أيضًا فى العام ٣٩٩ ميلادية وينسب لبطاركة الرومان.

وتثير تواريخ حرق مكتبة الإسكندرية، وظروف وملابسات وقوعها التاريخية وأسباب حدوثها، حديثًا حول المخاطر التى تتهدد الحضارة البشرية وتعرقل علومها وفنونها فى مسيرتها المتقدمة. وهى كلها أسباب دمار وفناء تقع بدوافع نابعة من نفس الكائن الذى تنهض على كاهله الحضارة ويكتشف بعقله وبصيرته العلوم والفلسفات ويولد خياله الفنون والآداب. فالإنسان هو هذا الكائن الذى يقبع فى جوهر المفارقة الكونية الكبرى ويجسد تناقضها الأكبر: الحياة والموت، الوجود والعدم، البناء والفناء.

تنسب التواريخ حرق مكتبة الإسكندرية للمرة الأولى لأمر صدر من "قيصر" لجنوده بحرق سفن الأسطول المصرى الراسية فى ميناء الإسكندرية. هنالك امتدت النيران وطالت المكتبة وأتت على ثروتها الذاخرة من الكتب والمخطوطات. ويستند أصحاب هذا الرأى من المؤرخين لمذكرات "قيصر" نفسها والتى يسجل فيها أن النيران التى أشعلها جنوده لإحراق الأسطول المصرى امتدت لتلتهم "مخزنًا مليئًا بأوراق البردى قريبا من الميناء". وهو نفس النص الذى يستند إليه مؤرخون آخرون فى دفع التهمة عن "قيصر"، ويرون أن هذا المخزن يستحيل أن يكون المكتبة لبعد موقع المكتبة عن الميناء من جهة. ومن جهة أخرى فإن مؤرخًا شهيرًا هو "سترابو" زار الإسكندرية عام ٢٥ ق.م، أى عقب واقعة الحرق المنسوبة لقيصر، دون أن يذكر أى شئ عنها. رغم ذلك فقد أتفق مؤرخون كثيرون عبر التاريخ على أن "يوليوس قيصر" هو من قام بإحراق مكتبة الإسكندرية. ومن أشهر هؤلاء المؤرخين "بلوتارك"، والمؤرخ الرومانى "جيلوس"، كما يتفق على هذا الرأى مؤرخان عاشا فى القرن الرابع، أحدهما وثنى هو "اميانوس مرسلينوس" والآخر مسيحى هو "اوروسيوس".

وتأتى الواقعة الثانية لتدمير المكتبة على أيدى بطاركة رومان متشددين فى القرن الرابع الميلادى فى عهد الامبراطور "ثيوزوسيوس الأول". حيث اشتدت فى هذه الآونة وطأة التعصب الدينى ولم يعد بإمكان المدرسين والطلبة الوثنيين التعايش فى هذا المناخ، ولا حتى كان ممكنا أن يسمح لهم بالبقاء بعيدًا فى سلام.

خاتمة

إن حكاية مكتبة الإسكندرية القديمة ليست مجرد تاريخ لمؤسسة علمية، بل هى قصة حضارة سعت دومًا للحفاظ على نور المعرفة وسط ظلمات التعصب والاضطهاد والصراع، وقصة بشر تاقوا لأن تكون الحقيقة فى متناول الجميع. تظل تلك المكتبة بتراثها، وإن أُحْرقَت مخطوطاتها، منبع إلهام لكل من ينشد أن يجمع شتات الإنسانية حول مشترك حضارى واحد، يؤمن بأن تقدم المجتمعات يقاس بما تُخَلِّفُه من أثر علمى وثقافى خالد لا يُمحى بمرور الزمن. فتبقى مكتبة الإسكندرية، رغم النهاية المأساوية، نموذجًا يتحدى النسيان، ودعوة دائمة لوحدة المعرفة وحوار الحضارات.

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق