من حارات القاهرة إلى رحاب الإنسانية.. نجيب محفوظ أول عربي يفوز بجائزة نوبل للأدب

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كانت مصر على موعد مع جائزة نوبل للأدب، عندما أُعلن عن فوز الأديب الكبير نجيب محفوظ بالجائزة فى 13 أكتوبر عام 1988، ليصبح أول كاتب عربي يحصل عليها. منحته الأكاديمية السويدية الجائزة تقديرًا لأعماله التى وصفت بأنها "غنية بالفروق الدقيقة، تارة واقعية برؤية واضحة، وتارة غامضة بشكل مثير، شَكَّلت فنًا سرديًا عربيًا ينطبق على البشرية جمعاء".

يُعدّ نجيب محفوظ أحد أعظم رموز الأدب العربى فى القرن العشرين، بل هو الوجه الأبرز للرواية العربية الحديثة وصاحب المشروع الأدبي الأكثر اتساعًا وتأثيرًا فى تاريخ الثقافة المصرية. وُلد فى حى الجمالية بالقاهرة عام 1911، وسط بيئةٍ شعبيةٍ عابقةٍ بالتاريخ والرموز الدينية والحضارية، فشكّلت طفولته فى أزقة القاهرة القديمة بذور عالمه الإبداعى الذى ظلّ ينهل منه حتى آخر أيامه. كانت القاهرة بالنسبة إليه أكثر من مدينة؛ كانت كائنًا حيًا يتنفس ويغضب ويحلم، ولذلك تحوّلت لاحقًا إلى الشخصية الكبرى فى رواياته، تتغيّر ملامحها بتغيّر الزمن والناس.

امتدّت مسيرته الأدبية لأكثر من سبعين عامًا من الإبداع المتواصل، قدّم خلالها أكثر من خمسين عملًا أدبيًا متنوعًا بين الرواية والقصة القصيرة والمقال الفكرى والسيناريو السينمائي. بدأ مشواره فى أربعينيات القرن الماضى برواياتٍ تاريخية مثل عبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة، قبل أن ينتقل إلى الواقعية الاجتماعية فى أعمال مثل القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق، ليؤسس بذلك مدرسة جديدة فى السرد العربى تمزج بين الفن والفكر، وبين الحكاية والتأمل الفلسفي. ومع كل مرحلة، كان محفوظ يعيد اختراع نفسه، متفاعلًا مع التحولات السياسية والفكرية التى عاشها المجتمع المصرى من الملكية إلى الجمهورية، ومن الثورة إلى الانفتاح.

لم تكن أعمال محفوظ مجرد رواياتٍ تُقرأ للتسلية، بل كانت وثائق إنسانية واجتماعية تسجّل حركة المجتمع المصرى وتحوّلاته العميقة عبر قرنٍ كامل. ففيها نقرأ تاريخ الطبقة الوسطى، وتقلّبات السياسة، وصراع الأجيال، والبحث عن الحرية والعدالة والمعنى. ومن خلال لغته البسيطة العميقة، وحبكته المتقنة، وقدرته على الغوص فى النفس البشرية، أصبح محفوظ بمثابة مؤرخٍ للوجدان المصري، وأيقونةً ثقافيةً جعلت من الأدب العربى جزءًا من التراث الإنسانى العالمي.

نوبل.. تتويج لعصرٍ من التنوير

لم يكن عام ١٩٨٨ حدثًا عاديًا فى تاريخ الأدب العربي، بل محطةً مفصلية حين أعلنت الأكاديمية السويدية منح جائزة نوبل فى الآداب للروائى المصرى نجيب محفوظ. جاء هذا التكريم تتويجًا لمسيرةٍ امتدت لأكثر من نصف قرن من الكتابة المتواصلة، قدّم خلالها محفوظ مشروعًا روائيًا متكاملًا جمع بين الإبداع الفنى والعمق الفلسفى والالتزام الإنساني. لم يكن محفوظ فى نظر لجنة نوبل مجرد كاتب بارع فى السرد، بل مفكرًا استطاع أن يجعل من الأدب وسيلة لفهم الإنسان ومصيره، وأن يربط بين التجربة المصرية الخاصة والأسئلة الكونية الكبرى حول الحرية والعدالة والقدر.

لقد كان فوز محفوظ بمثابة اعتراف عالمى بالثقافة العربية، وبقدرتها على إنتاج أدب يوازى فى قيمته الأدب العالمي. فمن خلال رواياته التى استلهمت التاريخ والتراث والدين والسياسة، استطاع أن يمنح الأدب العربى بعدًا إنسانيًا شاملًا يتجاوز الجغرافيا واللغة. رأى النقاد فى محفوظ صوتًا أصيلًا من أصوات الشرق، يكتب بلغة واقعية لكنها مشبعة بالتأمل، ويُحوّل تفاصيل الحياة اليومية فى القاهرة إلى لوحات فلسفية نابضة بالحياة، ما جعل القارئ الأجنبى يشعر بالقرب من شخصياته وكأنه يعيش بين أزقة الحارة المصرية.

أما أعماله التى رسّخت هذا المجد العالمى — مثل «الثلاثية» و«زقاق المدق» و«اللص والكلاب» و«أولاد حارتنا» — فقد مثّلت ذروة قدرته على كشف التناقضات الاجتماعية والسياسية والروحية فى المجتمع المصري. ففيها تداخلت مصائر البشر مع تحولات الوطن، وتجلّى الصراع بين القديم والجديد، بين الإيمان والشك، وبين السلطة والحرية. وقد صاغ محفوظ هذه العوالم بلغة سردية متينة، تمزج بين الواقعية والرمزية، وتكشف عن وعى فلسفى عميق جعل من رواياته شهادة على عصرٍ كامل من التنوير العربي.

الواقعية المصرية فى ثوبها الفلسفي

شكّلت الواقعية حجر الأساس فى مشروع نجيب محفوظ الروائي، لكنها عنده لم تكن مجرد نقل فوتوغرافى للحياة اليومية، بل كانت رؤية فلسفية للوجود الإنسانى داخل المجتمع المصري. ففى رواياته المبكرة مثل القاهرة الجديدة وخان الخليلى وزقاق المدق، التقط محفوظ نبض الشارع المصرى بكل ما فيه من صراع طبقى وتفاوت اجتماعى وتبدل قيمي. كانت شخصياته تنبض بالصدق الإنساني، تعيش فى أحياء مكتظة بالأمل والخيبة، وتكافح من أجل البقاء وسط عالمٍ متغير. لقد جعل محفوظ من الواقعية أداة لتشريح المجتمع وتحليل طبقاته، لكنه فى الوقت نفسه قدّم من خلالها صورة رمزية عن الإنسان فى صراعه الأبدى مع القدر.

ومع نضوج تجربته الإبداعية، بدأ محفوظ يجاوز حدود الواقعية التقليدية ليغوص فى عمق التجربة الإنسانية، متأثرًا بقراءاته للفلاسفة والأدباء الغربيين مثل سارتر ودوستويفسكى وكامو. ففى روايات مثل الطريق واللص والكلاب والشحاذ، يتجلى هذا التأثر بوضوح؛ إذ تتحول الشخصيات من مجرد نماذج اجتماعية إلى كائنات مأزومة تبحث عن المعنى وسط العبث والضياع. أبطاله يعيشون قلق الوجود، ويتأرجحون بين الخطيئة والخلاص، بين الواقع والمطلق، فى رحلة تكشف عن رؤية محفوظ العميقة للإنسان بوصفه كائنًا حرًا ومسؤولًا عن مصيره مهما كانت الظروف.

ثم جاءت المرحلة الرمزية فى مسيرته لتفتح أفقًا جديدًا فى الأدب العربى الحديث. ففى أعمال مثل أولاد حارتنا ورحلة ابن فطومة وحديث الصباح والمساء، تجاوز محفوظ حدود الزمان والمكان، واختزل التاريخ الإنسانى كله فى رموزٍ ودلالات كونية. تحوّلت الحارة إلى نموذج للعالم، والإنسان إلى رمزٍ للبحث عن الحقيقة والخلاص. فى هذه الروايات بلغ محفوظ ذروة النضج الفنى والفلسفي؛ إذ طرح أسئلة كبرى عن أصل الخير والشر، وعن العلاقة بين العلم والدين، وعن حرية الإنسان فى مواجهة القدر. وهكذا تحوّل من راوٍ للواقع المصرى إلى فيلسوف للوجود الإنساني، استطاع أن يجعل من الرواية أداةً للتأمل فى معنى الحياة ذاتها.

القاهرة فى عالم محفوظ

لم تكن القاهرة فى أدب نجيب محفوظ مجرد خلفية جغرافية تدور فيها الأحداث، بل كانت كائنًا حيًا يتنفس ويتحوّل مع الزمن، شاهدةً على تقلبات المجتمع المصرى وتحوّلاته. فقد رسم محفوظ ملامح العاصمة المصرية بدقةٍ نادرة، من أزقتها المزدحمة بالباعة والعمال والفقراء إلى شوارعها الواسعة التى تسكنها طبقة البورجوازية الصغيرة. فى كل زاوية من زواياها، ثمة حكاية تُروى، وصراع إنسانى يتجدد، حتى أصبحت المدينة رمزًا للهوية المصرية بكل تناقضاتها.

تجلّى عشق محفوظ للقاهرة فى تصويره لأحيائها القديمة مثل الحسين والجمالية وزقاق المدق، حيث تتقاطع الأصوات والروائح والمشاعر فى مشهدٍ واقعى نابض بالحياة. لم يقدّم هذه الأحياء كأماكن فقيرة أو هامشية فحسب، بل كمختبرٍ اجتماعى يكشف طبيعة الإنسان المصرى فى مقاومته للفقر، وتمسّكه بالأمل، وإيمانه العميق بالقدر. ومن خلال شخصياته البسيطة – كحميدة فى زقاق المدق أو سعيد مهران فى اللص والكلاب – عبّر عن التوتر بين الطموح والواقع، وبين الرغبة فى التغيير والخضوع للمصير.

وما يجعل تجربة محفوظ فريدة أن القاهرة عنده محلية فى تفاصيلها، عالمية فى دلالاتها. فالقارئ فى أى مدينة من مدن العالم يستطيع أن يرى فى أبطال محفوظ مرآةً لذاته، وأن يجد فى حوارى القاهرة تجسيدًا لصراعه الداخلى بين الخير والشر، والحرية والقيود. بهذه القدرة على تحويل المكان إلى رمزٍ إنسانى شامل، نجح محفوظ فى جعل القاهرة مركزًا أدبيًا للعالم، وجعل من أدبه جسرًا يصل الشرق بالغرب، والخاص بالكوني.

محفوظ والتنوير المصري

آمن نجيب محفوظ بأن الأدب ليس ترفًا فكريًا، بل وسيلة للدفاع عن العقلانية والحرية، وعن حق الإنسان فى التفكير والاختيار. كان يرى فى الكتابة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون فعلًا جماليًا، لذلك ظلّ مشروعه الإبداعى منحازًا إلى قيم التنوير، رافضًا للجمود والتقليد الأعمى. لم يكن حزبيًا أو مؤدلجًا، لكنه حمل فى رواياته روح المثقف المستقل الذى يؤمن بأن الوعى هو السبيل الوحيد لتقدم المجتمع، وأن الفن يجب أن يكون أداة لتوسيع مدارك الإنسان لا لتضييقها.

جسّدت روايته «أولاد حارتنا» هذه الرؤية التنويرية بأعمق صورها، إذ قدّمت تأملًا رمزيًا فى علاقة الإنسان بالخالق والعلم والسلطة، وسعت إلى إعادة قراءة التاريخ الدينى بمنظور إنساني. ورغم أن محفوظ كتبها بروحٍ فلسفية وبأسلوبٍ رمزى بعيد عن المباشرة، إلا أن الرواية أُسيء فهمها، وأثارت جدلًا دينيًا واسعًا تجاوز حدود الأدب إلى ميدان العقيدة والسياسة. لكن بالنسبة لمحفوظ، كانت الرواية إعلانًا واضحًا عن إيمانه بقدرة الإنسان على تجاوز الخوف والسعى نحو المعرفة، وعن اقتناعه بأن سؤال الحرية هو جوهر التجربة الإنسانية.

بلغ الصراع بين التنوير والظلامية ذروته عندما تعرّض محفوظ عام ١٩٩٤ لمحاولة اغتيال على يد متطرفين بسبب الرواية ذاتها. كانت تلك الحادثة صدمة للضمير الثقافى المصرى والعربي، لكنها أيضًا كشفت عمق الشجاعة الفكرية لمحفوظ، الذى لم يتراجع عن قناعاته. ظلّ يردّد أن «الإبداع لا يُقتل»، وأن الكلمة الحرة تملك حياة تتجاوز صاحبها وزمنها. وبذلك تحوّل محفوظ إلى رمزٍ للمثقف المستنير الذى دافع عن العقل فى وجه العنف، وعن الفن فى وجه التحريم، وعن الإنسان فى وجه الخوف.

محفوظ والسينما المصرية

يُعد نجيب محفوظ أكثر الأدباء العرب حضورًا فى تاريخ السينما، إذ تحوّلت أعماله إلى ما يقرب من ثلاثين فيلمًا تُعتبر اليوم من كلاسيكيات الفن السابع فى مصر والعالم العربي. ومن خلال هذا الامتزاج بين الأدب والسينما، استطاع محفوظ أن يجعل الكلمة تتحوّل إلى صورة، والرمز إلى مشهدٍ حيّ ينبض بالحركة والمشاعر. كانت رواياته مادة خصبة للمخرجين الكبار مثل صلاح أبو سيف، وتوفيق صالح، وحسين كمال، اللذين وجدوا فى نصوصه عمقًا دراميًا وإنسانيًا يتيح قراءة المجتمع المصرى فى مراحله المختلفة.

لم يكتف محفوظ بدور الكاتب الذى تُقتبس أعماله، بل كان جزءًا من المشهد الثقافى والسينمائى نفسه؛ فقد عمل فى مصلحة الرقابة على المصنفات الفنية، ثم فى وزارة الثقافة، ما جعله على تماسٍ مباشر مع قضايا الفن والحرية والإبداع. هذا الاحتكاك اليومى بالوسط الفنى منحه وعيًا دقيقًا بقدرة السينما على التأثير الجماهيري، فكان يرى فيها وسيلة لتقريب الفكر الأدبى من الناس، وجعل القضايا الكبرى — كالفقر، والسلطة، والعدالة الاجتماعية — حيةً على الشاشة لا مجرد أفكار فى الكتب.

وقد شكّلت أفلام مثل «بداية ونهاية» و«زقاق المدق» و«الكرنك» و«ثرثرة فوق النيل» علاماتٍ فارقة فى تاريخ السينما المصرية، لأنها لم تكتفِ بسرد قصص إنسانية، بل قدّمت نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا يعكس رؤية محفوظ للعلاقة المعقّدة بين الإنسان والسلطة والحرية والفساد. وبفضل هذه الأعمال، تجاوز أدب محفوظ حدود النخبة المثقفة ليصل إلى ملايين المشاهدين، فأصبحت السينما جسرًا آخر حمل رسالته التنويرية، ورسّخ مكانته كأديبٍ جمع بين عمق الفكر وسحر الصورة.

اللغة والأسلوب

يُعدّ نجيب محفوظ من أبرز من طوّروا اللغة الروائية العربية، إذ استطاع أن يبتكر أسلوبًا جديدًا يجمع بين جمال الفصحى وبساطة العامية، فى صياغةٍ تجعل القارئ يشعر بأن الشخصيات تتحدث بلسانه اليومى دون أن تفقد النص قيمته الأدبية أو فخامته التعبيرية. هذا التوازن بين الفصحى والعامية لم يكن مجرد خيار لغوي، بل كان رؤية فنية تعكس رغبة محفوظ فى أن يكون الأدب قريبًا من الناس، معبرًا عن وجدانهم بلغتهم، دون أن يتنازل عن المستوى الرفيع للكتابة الإبداعية.

تميّز محفوظ بقدرةٍ لافتة على تحويل الحوار الشعبى إلى أداةٍ فنية راقية. فالمحادثات البسيطة فى المقاهى أو الشوارع التى تمتلئ بها رواياته لم تكن مجرد نقلٍ واقعي، بل كانت وسيلة لتشكيل الشخصية وكشف دواخلها النفسية والاجتماعية. ومن خلال العبارات اليومية، استطاع أن يعرض صراعات الإنسان بين الرغبة والخوف، بين الأمل واليأس، وأن يجعل القارئ يسمع أصوات المجتمع بتعدد طبقاته ومستوياته. وهكذا أصبحت لغته مرآة لروح القاهرة بكل ما فيها من تناقضات وثراء إنساني.

أما من الناحية الجمالية، فقد تأثرت لغة محفوظ بإيقاع النص القرآنى فى تراكيبها وصورها وإيحاءاتها، ما منحها عمقًا روحانيًا ونغمة موسيقية مميزة. كان يميل إلى الجمل المتوازنة والإيقاعات الهادئة التى تمنح النص طابعًا تأمليًا وفلسفيًا، خصوصًا فى مراحله اللاحقة التى اتجه فيها نحو الرمزية. بهذا الأسلوب المتفرّد، نجح محفوظ فى خلق لغةٍ سرديةٍ عربيةٍ حديثة تجمع بين الأصالة والتجديد، وتُعبّر عن الإنسان المصرى بلغةٍ يفهمها العالم كله.

نجيب محفوظ كجسرٍ بين الشرق والغرب

لم يكن نجيب محفوظ مجرد أديب محلى يكتب عن مصر، بل أصبح جسرًا ثقافيًا بين الشرق والغرب بعد أن تُرجمت أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة عالمية. وقد فتحت هذه الترجمات أمام القرّاء الغربيين نافذةً واسعة على العالم العربى الحقيقي، بعيدًا عن الصور النمطية التى رسّختها السياسة أو الإعلام. عبر شخصياته وأحيائه الشعبية وحواراته العميقة، نقل محفوظ نبض الإنسان العربى وهمومه وآماله إلى جمهور عالمي، فصار اسم “محفوظ” مرادفًا للأدب العربى الحديث فى كبرى الجامعات ودور النشر فى أوروبا وأميركا وآسيا.

رأى النقاد الغربيون فى محفوظ صوت الشرق الحديث؛ الشرق الذى لا ينعزل عن العالم، بل يشارك فى حوار الحضارات ويقدّم رؤيته الخاصة عن الوجود والحرية والعدالة. كانت أعماله، مثل أولاد حارتنا وثرثرة فوق النيل واللص والكلاب، تطرح أسئلة إنسانية تتجاوز حدود الجغرافيا والثقافة، مما جعلها قابلة للفهم فى أى مكان من العالم. بهذا المعنى، لم يكن محفوظ فقط ممثلًا للأدب المصرى أو العربي، بل أصبح جزءًا من التراث الإنسانى المشترك الذى يوحّد البشر عبر القيم والمعاني.

لقد أسهم محفوظ، من خلال أدبه، فى تصحيح صورة الثقافة العربية فى الوعى الغربي. فقدّم نموذجًا للمثقف الذى يحاور ويبدع دون أن يفقد جذوره، والذى يجمع بين الروح المصرية الأصيلة والفكر الإنسانى الكوني. وبفضله، تحوّلت القاهرة من مجرد خلفية لأحداث محلية إلى عاصمة رمزية للأدب العالمي، وصار الحيّ الشعبى الذى كتبه محفوظ فضاءً عالميًا يعكس معانى الحياة والصراع والأمل فى كل إنسان.

الإرث الثقافى والحضاري

لا يُقاس إرث نجيب محفوظ بحجم إنتاجه الأدبى وحده، رغم أن ما خلّفه من رواياتٍ ومجموعاتٍ قصصيةٍ يشكّل ثروةً هائلة فى المكتبة العربية، بل يُقاس أيضًا بعمق تأثيره فى الوعى الثقافى العربى والعالمي. لقد غيّر محفوظ نظرة القارئ العربى إلى الرواية، فأخرجها من حدود التسلية والسرد البسيط إلى مجال الفكر والفلسفة والتأمل الإنساني. ومن خلاله، تحوّلت الرواية إلى وسيلةٍ لفهم المجتمع المصرى والعربى بكل تناقضاته وتحولاته، وإلى فنٍّ قادر على التعبير عن الوجود الإنسانى فى أبعاده الروحية والاجتماعية والسياسية.

تأثرت أجيال متعاقبة من الكتّاب المصريين والعرب بمدرسة محفوظ الفنية، فكان له الفضل فى تكوين ملامح ما يُعرف بـ الرواية الواقعية العربية. استلهم منه أدباء كبار مثل صنع الله إبراهيم، وإبراهيم عبد المجيد، وبهاء طاهر، وعلاء الأسواني، ويوسف زيدان وغيرهم، أساليب السرد المتعددة، وبناء الشخصيات المركّبة، وتوظيف البطل المأزوم الباحث عن ذاته فى عالمٍ يضجّ بالتناقضات. لم يكن تأثير محفوظ أسلوبيًا فقط، بل فكريًا أيضًا، إذ علّم أجيالًا من المبدعين أن الأدب مسؤولية وأن الكلمة موقفٌ إنسانى قبل أن تكون جملةً فنية.

واليوم تُدرَّس أعمال نجيب محفوظ فى الجامعات والمعاهد الأدبية حول العالم، ليس فقط باعتبارها نماذج للرواية العربية الحديثة، بل أيضًا بوصفها نصوصًا إنسانية عالمية تحمل رؤية فلسفية عميقة للحياة. لقد أصبح محفوظ جزءًا من المنهج الأكاديمى فى دراسة تطوّر السرد العربي، ورمزًا لقدرة الأدب على تجاوز الحدود الثقافية واللغوية. وهكذا، يظل إرثه الثقافى شاهدًا على أن الكلمة الصادقة، حين تُكتب بوعيٍ وصدقٍ وجمال، تخلّد صاحبها وتبقى حيّة فى وجدان الإنسانية جمعاء.

نجيب محفوظ والهوية المصرية

فى عمق مشروع نجيب محفوظ الإبداعي، كانت مصر أكثر من مجرد مكان؛ كانت رمزًا للحضارة الإنسانية، ومختبرًا دائمًا لتفاعل التاريخ مع الواقع. كتب محفوظ عن مصر ككائن حيّ يتغيّر عبر الزمن، وعن الإنسان المصرى باعتباره نموذجًا للإنسان الكونى الذى يواجه مصيره بين الحلم والخيبة، الإيمان والشك، الماضى والمستقبل. من خلال تصويره الدقيق للحياة اليومية فى الأزقة والمقاهى والبيوت الشعبية، استطاع أن يجعل من التفاصيل المحلية لوحةً كونية تعبّر عن التجربة الإنسانية فى أعمق صورها.

تجلّت الهوية المصرية فى روايات محفوظ عبر شخصياته الخالدة، مثل كمال عبد الجواد فى الثلاثية وسعيد مهران فى اللص والكلاب. هذه الشخصيات لم تكن مجرد أبطال روائيين، بل رموزٌ لأجيالٍ مصريةٍ تعيش التحولات الكبرى من الملكية إلى الثورة، ومن التقليد إلى الحداثة. فى كمال رأينا المثقف الحائر بين التراث والعقل، وفى سعيد مهران تجسّد الإنسان الذى يقاوم الظلم ويبحث عن عدالةٍ ضائعة فى عالمٍ قاسٍ. من خلالهما، قدّم محفوظ صورة مصر فى القرن العشرين بكل ما تحمله من صراعٍ بين الأصالة والتجديد، والإيمان والتمرد.

ولعل أعظم ما يميز مشروع محفوظ أنه كتب عن الهوية المصرية بوصفها هويةً إنسانيةً منفتحة، لا تنغلق على ذاتها ولا تذوب فى الآخر. فمصر عنده مهد للحضارة، لكنها أيضًا فضاء للتعدد والتعايش والحوار بين الأديان والثقافات. لقد آمن محفوظ بأن جوهر الشخصية المصرية هو قدرتها على التوازن بين الروح والعقل، بين الواقعية والحلم، بين جذور التاريخ وآفاق المستقبل. وهكذا، أصبحت أعماله مرآةً صادقة لروح مصر — تلك الروح التى تجمع بين النيل والأهرام، بين صوت المؤذن وأغنية أم كلثوم، بين الحارة الشعبية والفكر العالمي.

خلاصة

كان نجيب محفوظ أكثر من روائى بارع؛ كان فيلسوفًا للحياة المصرية ومؤرخًا لوجدانها، ومثقفًا مستنيرًا آمن بقوة العقل والجمال فى مواجهة القبح والتطرف.

إن فوزه بجائزة نوبل لا يُمثّل تتويجًا لمسيرته فحسب، بل شهادة للعقل المصرى والعربى وقدرته على الإبداع المتجدد.

سيبقى محفوظ، ما بقى الأدب، رمزًا للحداثة والتنوير، ودليلًا على أن الرواية قادرة على أن تكون مرآة حضارة بأكملها وصوت الإنسان فى أرقى تجلياته.

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق