«غاز» مصر وإسرائيل.. بين السياسة والاقتصاد

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بعد إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المصادقة على صفقة غاز مع مصر، واصفًا إياها بأنها «الأكبر في تاريخ إسرائيل»، تباينت ردود الفعل في الشارع المصري والعربي.

فبينما عبر البعض عن غضبهم ورفضهم للصفقة انطلاقًا من اعتبارات سياسية وأخلاقية مرتبطة بالقضية الفلسطينية، رأى آخرون فيها خطوة ضرورية تخدم المصلحة الاقتصادية للدولة، في حين تعاملت فئة ثالثة مع الخبر بقدر من اللامبالاة. وتبقى جميع هذه المواقف مفهومة ومشروعة في سياق قضية شديدة الحساسية والتعقيد.

 

غير أن التعاطي مع هذا الملف يفرض ضرورة الفصل بين الموقف السياسي الثابت لمصر تجاه القضية الفلسطينية، وبين إدارة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للدولة، لا سيما في قطاع حيوي وحساس مثل الطاقة.

ومن هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا تتجه مصر إلى إسرائيل تحديدًا لتأمين احتياجاتها من الغاز، رغم استمرار المواقف المصرية الداعمة للحقوق الفلسطينية والرافضة للسياسات الإسرائيلية؟

 

الإجابة تبدأ من منطق الدولة، حيث تدار  ملفات الطاقة وفق اعتبارات اقتصادية وأمنية دقيقة. فمصر، كغيرها من دول العالم، تحتاج إلى مصادر طاقة مستقرة لتلبية احتياجاتها المحلية وضمان استمرارية النشاط الصناعي وتوليد الكهرباء. وعندما تواجه أي دولة فجوة بين الإنتاج والاستهلاك، فإنها تلجأ إلى الاستيراد من أقرب وأوفر المصادر المتاحة، وغالبًا ما تكون الدول المجاورة هي الخيار الأكثر واقعية.

 

وقد سعت مصر بالفعل إلى التفاوض مع دول شقيقة لاستيراد الغاز، إلا أن الأسعار المعروضة في تلك المفاوضات كانت مرتفعة للغاية، بما يشكل عبئًا مباشرًا على الاقتصاد المصري، خاصة في ظل وجود سعر عالمي للغاز. وتشير التقديرات إلى أن احتياجات مصر الكبيرة من الغاز قد تصل تكلفتها، وفق أسعار السوق العالمية، إلى نحو 68 مليار دولار، وهو رقم يصعب تحمله في الظروف الاقتصادية الراهنة. وفي المقابل، جاء العرض الإسرائيلي بقيمة تقترب من 35 مليار دولار، أي بنحو نصف التكلفة تقريبًا.

 

المفارقة أن إسرائيل نفسها لم تبد حماسًا فوريًا لإتمام الصفقة، بل رفضتها في مراحل سابقة، سواء بسبب اعتراضها على السعر المعروض أو نتيجة اعتبارات سياسية مرتبطة بالمواقف المصرية الداعمة للقضية الفلسطينية. غير أن هذا الرفض لم يستمر طويلًا، إذ دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة، مدفوعة بمصالح شركة «شيفرون» الأمريكية، الشريك الرئيسي في حقول الغاز الإسرائيلية.

 

إلى جانب ذلك، يبرز سبب استراتيجي بالغ الأهمية يتمثل في أن مصر تعد الدولة الوحيدة في شرق المتوسط التي تمتلك محطات إسالة غاز عاملة وجاهزة، وهو ما يجعلها المنفذ العملي الوحيد أمام إسرائيل لتسييل غازها وتصديره إلى الأسواق العالمية، في ظل غياب بدائل إقليمية مماثلة.

 

وفي هذا السياق، أكد رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ضياء رشوان، أن صفقة الغاز مع إسرائيل ما زالت قيد النقاش، ويتم التعامل معها وفق اعتبارات واضحة تضع المصلحة الوطنية المصرية في المقام الأول. وأوضح أن القرارات الاقتصادية المصرية تتخذ بناء على حسابات دقيقة تخدم المصلحة القومية الخالصة.

 

وأشار رشوان إلى أن هذه الترتيبات تندرج ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز دور مصر كمركز إقليمي لتجارة وتداول الغاز في شرق المتوسط، مستندة إلى ما تمتلكه الدولة من بنية تحتية متطورة تشمل محطات إسالة، وشبكات نقل حديثة، بما يتيح لمصر التعامل بمرونة مع المتغيرات الإقليمية والدولية في سوق الطاقة.

كما شدد على أن جميع الاتفاقات في هذا الإطار تخضع للتقييم المستمر بما يحقق أقصى فائدة للاقتصاد المصري ويحافظ على الدور الاستراتيجي للدولة.

 

من جانبه، أعلن نتنياهو أن قيمة الصفقة تبلغ نحو 112 مليار شيكل (ما يقارب 34.7 مليار دولار)، مشيرًا إلى أن 58 مليار شيكل ستذهب مباشرة إلى خزينة الدولة الإسرائيلية، وأن شركة «شيفرون» الأميركية، إلى جانب شركاء إسرائيليين، ستتولى توريد الغاز إلى مصر.

 

لا يمكن قراءة صفقة الغاز بين مصر وإسرائيل بمعزل عن سياقها الاقتصادي والاستراتيجي الأوسع،فهي لا تمثل تحولًا سياسيًا ولا تنازلًا عن ثوابت وطنية، بقدر ما تعكس إدارة دقيقة لتوازن المصالح في منطقة شديدة الاضطراب.

وبينما تظل القضية الفلسطينية في صدارة المواقف المصرية سياسيًا وأخلاقيًا، فإن تأمين احتياجات الدولة من الطاقة وتعزيز موقعها كمركز إقليمي في هذا القطاع الحيوي يظلان خيارًا استراتيجيًا تحكمه حسابات عقلانية لا مكان فيها للعاطفة وحدها.

 

وتتعدد زوايا النظر إلى هذه الصفقة بين حسابات المصالح وحدود السياسة، ضمن مشهد أوسع لغاز شرق المتوسط، حيث يتقاطع الاقتصاد مع الاعتبارات الجيوسياسية. وهي صفقة تحمل أبعادًا اقتصادية واستراتيجية معقدة، تعكس واقع الطاقة وحسابات الدولة، وتقف عند نقطة توازن دقيقة بين متطلبات الاحتياج الاقتصادي والثوابت السياسية. وفي قراءة أعمق، تقدم هذه الصفقة نموذجًا لكيف تدار  ملفات الطاقة حين تحكمها المصالح، ليصبح الغاز موردًا استراتيجيًا تحكمه اعتبارات الدولة وخططها بعيدة المدى، لا الانفعالات أو المواقف الآنية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق