رامي زُهدي يكتب: «ارتباك ما بعد الفشل: قراءة في مؤشرات اليأس الإثيوبي من ملف سد النهضة ومحاولات صناعة انتصار وهمي»

تحيا مصر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم يكن البيان الأخير الصادر عن وزارة الخارجية الإثيوبية بشأن سد النهضة ونهر النيل مجرد رد عابر على موقف مصري واضح وثابت، بل جاء في مضمونه وحدته وتناقضاته معبرًا عن حالة غير مسبوقة من الارتباك الإثيوبي، وعن تراجع القدرة على تسويق سردية «النصر المائي» التي روجت لها أديس أبابا طوال أكثر من عقد.

الخطاب الإثيوبي الذي كان يُبنى سابقًا على لغة «التمكّن والسيادة» تحول فجأة إلى خطاب دفاعي، مليء باتهامات فضفاضة ومحاولات لإعادة كتابة التاريخ، بل ومحاولة لخلط الملفات من النهر إلى البحر الأحمر، في صورة تكشف بوضوح أن الملف لم يعد بين يدي إثيوبيا كما كان، وأن مكاسب الملء الأحادي لم تعد ورقة فعالة.

اليوم، يمكن القول إن إثيوبيا تخسر سرديًا وسياسيًا ما اعتقدت أنها ربحت فنيًا وهندسيًا، وأن الخطاب الذي ظهرت به وزارة خارجيتها لا يعكس قوة موقف، بل ضيق خيارات، وغياب أفق، وضرورة داخلية للبحث عن «عدو خارجي» يبرّر الإخفاق في إدارة ملف السد سياسيًا واقتصاديًا.

"مؤشرات اليأس الإثيوبي وحلم النهضة الوهمي"

اتت لغة البيان كهجوم بلا مضمون وروايات بلا سند، حيث أن تاريخيًا، كانت الخطابات الإثيوبية تعتمد على ثلاث ركائز، هي «حق التنمية، السيادة، ورفض الاتفاقيات القديمة»، أما اليوم، فالمفردات ذاتها أصبحت تُستخدم بطريقة تكشف فقدان الرسائل الرسمية اتزانها؛ فقد وصف البيان الأخير الموقف المصري بأنه «تصعيد» بينما تعترف كل الأطراف الدولية من الاتحاد الأفريقي إلى الولايات المتحدة بأن مصر هي الطرف الأكثر التزامًا بضبط النفس، وأنها لم تُقدم مرة على أي تهديد مائي أو عسكري.

كذلك التحوّل اللغوي الإثيوبي من «القوة» إلى «الاستجداء السياسي» ليس صدفة، بل نتيجة تآكل الرواية الداخلية وتراجع قدرة الحكومة على تبرير الإنفاق الضخم على مشروع يواجه مصيرًا سياسيًا وفنياً غير محسوم.

كما أن الأرقام تكشف حجم الخسائر والارتباك،ففي عام 2011 أعلنت إثيوبيا بدء المشروع بتكلفة مبدئية 4.7 مليار دولار، وفي عام 2024 كانت تشير التقديرات الدولية إلى أن التكلفة تجاوزت 8.8 مليارات دولار، أي بزيادة تفوق 80% عن الرقم الأصلي، في بلد يعاني من ديون تتجاوز 34 مليار دولار.

ومنذ عام 2020 وحتى عام 2024 نفذت إثيوبيا أربع عمليات ملء أحادي دون اتفاق، لكنها لم تحصل كما كانت تأمل على اعتراف دولي بشرعية هذه الإجراءات.

بينما بلغت عدد جولات المفاوضات أكثر من 35 جولة تفاوضية بين أديس أبابا والقاهرة والخرطوم خلال 13 عامًا، لم تقبل خلالها إثيوبيا أي نص ملزم قانونيًا بشأن قواعد التشغيل.

كل هذه الأرقام تكشف أن إثيوبيا لم تستطع تحويل الملء إلى «شرعية»، ولم تستطع تحويل سنوات المراوغة إلى «اتفاق الأمر الواقع»، بل خسرت أهم ما كانت تسعى إليه وهو الاعتراف الدولي.

إضافة إلي مأزق داخلي يفرض تصعيدًا خارجيًا،فوفق تقارير دولية هناك حوالي 20 مليون إثيوبي يعانون انعدام الأمن الغذائي،وأكثر من ثلاثة نزاعات داخلية مشتعلة في تيجراي وأوروميا وأمهرا، بالتوازي مع انخفاض العملة الإثيوبية بنسبة 45% خلال خمس سنوات. 
وفي في ظل هذا المشهد، يصبح السد سياسيًا  «قصة نجاح داخلي وهمية» يجب الدفاع عنها بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر اختراع عدو خارجي وإعادة تدوير مصطلحات مثل «اتفاقات استعمارية» أو «تهديدات مصرية»، رغم أن الأخيرة لا وجود لها إلا في الخطاب الإثيوبي.

"لماذا يفشل الخطاب الإثيوبي رغم ارتفاع الصوت؟"

لأسباب متعددة أهمها أن القانون الدولي ليس رواية يمكن إعادة كتابتها، فإثيوبيا تحاول منذ سنوات خلق إطار نظري جديد يُظهر النيل الأزرق (أباي) وكأنه «ملك خاص» لها، مستخدمةً مصطلحات محلية لا قيمة قانونية لها، بما فيها استخدام الإسم المحلي (أباي)  بدلاً من النيل الأزرق،لكن قواعد القانون الدولي واضحة، فالنيل نهر دولي عابر للحدود تشترك فيه 11 دولة، من خلال مبدأ عدم إحداث ضرر كمبدأ مُلزم للجميع، والاتفاق الملزم قانونًا هو القاعدة وليس الاستثناء، ولذلك لم تجد إثيوبيا دولة واحدة حتى حلفاءها تتبنى روايتها بشكل كامل.

وأيضا لأن خلط ملف السد بملف البحر الأحمر اعتراف ضمني بالأزمة، عبر محاولة دمج ملف السد بقضية إيجاد ميناء بحري مؤجر او ممتلك على البحر الأحمر ليست سوى مؤشر على تسييس متعمد للأزمة.

وإثيوبيا تعلم أن تحركاتها البحرية تواجه رفضًا سودانيا وإريتريًا واضحا وأيضا سعودياً، ولذلك تحاول صناعة «مظلة صراع إقليمي» تربط بها السد لتبرير ضغوط سياسية جديدة، لكن هذا الأسلوب سياسيًا يعكس أزمة في جدول الأولويات، وليس قوة في أوراق التفاوض.

ولأن القاهرة ثبّتت موقفها الشرعي والقانوني أمام العالم، فالموقف المصري أصبح اليوم منضبطًا على عدة ثوابت اهمها ان لا رفض لحق إثيوبيا في التنمية، لكن ايضا وبالتأكيد لا قبول لأي ضرر على حقوق مصر المائي، ولا شرعية لأي إجراءات أحادي، ولا اتفاق بدون إلزام قانوني.
هذه الرسالة أصبحت بشهادة كافة الأطراف الدولية مستقرة ومتينة مقابل خطاب إثيوبي متناقض يتغير من بيان لآخر.

"اليأس الإثيوبي في ميزان السياسة الإقليمية"

السد الإثيوبي يتحول من مشروع إقليمي إلى ملف معزول، حيث كان يُروّج لسد النهضة باعتباره مشروعًا «يوحد إفريقيا».
لكن الواقع يقول إن إثيوبيا أصبحت اليوم في عزلة توافقية متعددة الأطراف المضادة، فالسودان رافض بشدة للملء الأحادي، ودول حوض النيل لا تؤيد التصعيد، والاتحاد الإفريقي يدفع نحو اتفاق ملزم، بينما القوى الدولية تعتبر عدم الاتفاق «خطرًا إقليميًا».

إذن، فقدت إثيوبيا الإجماع القاري الذي كانت تراهن عليه، بالإضافة إلي خسارة القوة الناعمة الإثيوبية،فخلال العقد الماضي، كانت إثيوبيا تقدم نفسها كقوة ناعمة في شرق إفريقيا عبر الاتحاد الإفريقي والوجود الدبلوماسي الكثيف، 
لكنها اليوم، تواجه تآكل صورتها كـ«دولة استقرار»، توتر علاقاتها مع السودان وإريتريا والصومال، وفقدان الثقة الدولية في وعودها التفاوضية، لذا تتجه الي بيانات هجومية، إنما مصدرها الخوف وليس القوة، فعندما تتحول البيانات الرسمية إلى سجال علني، وتُستخدم فيها مصطلحات غير دبلوماسية، فهذه علامة على تراجع القدرة على التحكم في الرواية الداخلية، وهذا بالضبط ما تعكسه تصريحات الخارجية الإثيوبية الأخيرة.

"ماذا تعني التصريحات المصرية من منظور إستراتيجي؟"

التصريحات المصرية الأخيرة المتكررة والثابتة علي نفس المنهج لم تكن مجرد رد سياسي، بل كشف لحقيقة حاولت إثيوبيا إخفاءها طويلًا مفادها أن الملف لم يعد في صالح اثيوبيا سياسيًا، وأن مرحلة المناورة انتهت، وهذا ما يفسر حجم الغضب الإثيوبي الذي ظهر في البيان، لأن الحقائق التي ذُكرت تضرب في عمق الرواية الرسمية الإثيوبية القائمة على ثلاث ركائز اولها أن مصر تهدد وهذا غير صحيح، ثم أن الملء الأحادي حق وهذا غير قانوني، وأخيرا أن الاتفاقيات «استعمارية» وهذا غير علمي وغير منطقي، ولذلك، فإن قوة التصريحات المصرية الرسمية المباشرة وغير المباشرة جاءت من مطابقة المنطق القانوني مع الواقع السياسي، وهذا ما أربك الطرف الإثيوبي وأظهر حجم الفجوة بين ادعاءاته وحقائق الأرض.

"نحو مرحلة جديدة من الصراع الدبلوماسي"

المشهد الآن يتجه إلى مرحلة أكثر وضوحًا، حيث أن مصر ثابتة على موقفها الإقليمي والقانوني، والسودان متضرر مباشرة من الإجراءات الأحادية، وإثيوبيا وهي الطرف الأضعف محاصرة بأزمتها الداخلية وخسارتها الدولية،ومع فشل أديس أبابا في تسويق انتصار سياسي، وإصرارها على الهروب للأمام، فإن اتفاقًا ملزمًا أصبح هو الخيار الوحيد المقبول دوليًا لإنهاء هذا الملف.

لقد كشف البيان الإثيوبي الأخير، بكل ما فيه من تناقضات وادعاءات ومغالطات، عن حقيقة واحدة، أن إثيوبيا فقدت السيطرة على روايتها السياسية حول سد النهضة، وأن صرخات التشكيك والاتهام ليست دليل قوة، بل انعكاس لحالة يأس سياسي، ومصر ثابتة، والقانون واضح، والتاريخ شاهد، وحقوق المصريين والسودانيين في مياه النيل ليست محل تفاوض مع طرف يحاول صناعة شرعية من فراغ.

حفظ الله مصر هبة النيل، وحفظ النيل شريانًا للحياة والتنمية لكل دول حوضه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق