في مشهد ثقافي وفني شديد الثراء، تتقاطع فيه ريشة الفنان مع منهج الأكاديمي، تبرز العلاقة الفكرية والجمالية بين الفنان الرائد حسين بيكار(2 يناير 1913 - 16 نوفمبر 2002)، أحد أهم رموز التنوير البصري في مصر الحديثة، وبين المؤرخ الفني الدكتور عبدالغفار شديد الذى رحل عن عالمنا أمس عن عمر ناهز 87 عامًا، الذي أسس أحد أكثر المناهج تأثيرًا في تدريس تاريخ الفن بالجامعات المصرية. علاقةٌ لم تكن مجرد توازٍ بين مسارين، بل تفاعلٌ مباشر بين مدرسة فنية في التعبير وأخرى في التحليل والتأريخ.
على مدار عقود، نجح بيكار بخطوطه المرهفة ولغته اللونية شديدة الخصوصية في نقل الفن التشكيلي من دائرة النخبة إلى فضاء الثقافة العامة. بينما انشغل شديد بتحويل هذا التراكم الفني والمعرفي إلى منهجٍ أكاديمي ممنهج قادر على تعليم الأجيال الجديدة كيف تقرأ العمل الفني وتتتبّع جذوره التاريخية وتفهم مكوناته الجمالية.
تميزت أعمال بيكار بقدرته على التبسيط العميق، ذلك الأسلوب الذي يجمع بين وضوح الشكل وعمق الفكرة، اعتمد بيكار فلسفة تقوم على تهذيب الخطوط وإعادة صياغة التراث المصري في قالب حديث، مما أكسب أعماله هوية واضحة ومتفردة.
هذا الأسلوب لم يكن مجرد مدرسة فنية، بل أصبح مرجعًا بصريًا استند إليه كثير من الأكاديميين، وكان من بينهم عبد الغفار شديد، الذي رأى أن تجربة بيكار تمثّل نموذجًا حيًا على قدرة الفن المصري على التجدد دون فقدان جذوره.
حين أسس الدكتور عبدالغفار شديد منهجه الأكاديمي لتدريس تاريخ الفن بالجامعات المصرية، كان يحمل قناعة راسخة بأن الفن لا يُدرّس بوصفه تراكمًا للصور والحقب الزمنية فقط، بل بوصفه لغةً لها نحوٌ وصرفٌ وقواعد. ومن هنا، استند شديد إلى تجربة بيكار كواحدة من النماذج الأساسية في شرح كيفية قراءة الصورة، وتحليل علاقتها بالثقافة والهوية.
كان شديد يدرّس لطلابه أن أعمال بيكار تمثل مثالًا واضحًا على تداخل الفن مع المجتمع، وكيف يمكن لفنان واحد أن يعيد صياغة صورة الإنسان المصري بأبعاده النفسية والوجدانية دون أن يفقد بساطته. ولذلك، احتلت تجربة بيكار مساحة واسعة في محاضراته ونقاشاته داخل القاعة الجامعية.
مع تأسيس مقرر "مدخل إلى تاريخ الفن" في عدد من الجامعات المصرية، اعتمد شديد على منهج يقوم على: تحليل الأساليب الفنية من خلال رموز مصرية معاصرة، والتركيز على تطور الهوية البصرية المصرية، وربط التجارب الفنية بحركات المجتمع، وتقديم نماذج تطبيقية، جاء بيكار في مقدمتها.
وبذلك، لم يصبح بيكار مجرد مثال في كتابٍ أكاديمي، بل أصبح حالة دراسية مستمرة، تُدرّس في إطار فهم تطور الفن المصري من التراث إلى الحداثة.
تُظهر الوثائق والشهادات العلمية أن العلاقة الفكرية بين بيكار وشديد كانت، في جوهرها، حوارًا ممتدًا بين الفنان والمؤرخ؛ الأول يقدّم المادة البصرية، والثاني يصوغ من خلالها منهجًا تحليليًا. وقد أسهم هذا الحوار في تغيير طبيعة تدريس الفن داخل الجامعات، من الحفظ والتلقين إلى التحليل والقراءة النقدية.
اليوم، وبعد مرور عقود على تأسيس هذا المنهج، لا يزال تأثير بيكار حاضرًا في المحاضرات والمراجع الجامعية. فطلاب الفنون والتصميم يدرسون أعماله لا باعتبارها لوحات جميلة فحسب، بل باعتبارها نموذجًا لفهم العلاقة بين الفن والهوية والمجتمع.
بينما يستمر إرث شديد عبر أجيال من الأكاديميين الذين تخرجوا على يديه واستخدموا منهجه لتطوير برامج جديدة في تاريخ الفن والنقد البصري.
















0 تعليق