في مشهد يحمل دلالات سياسية واقتصادية بالغة، وقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جوار الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال مراسم وضع هيكل الاحتواء للمفاعل الأول بمحطة الضبعة النووية، في لحظة عكست عمق الشراكة الممتدة بين القاهرة وموسكو في أحد أهم مشاريع الطاقة في تاريخ مصر الحديث.
وجاءت هذه اللحظة لتعلن عمليًا انتقال المشروع إلى مرحلة تنفيذية متقدمة، وتؤكد أن مصر باتت على أعتاب دخول عصر الطاقة النووية السلمية وفق أحدث المعايير العالمية.
وقد مثّلت تصريحات بوتين خلال المراسم مدخلًا مهمًا لفهم الأبعاد الاستراتيجية للمشروع، حين أكد أن محطة الضبعة ستكون قادرة على تلبية جزء أساسي من احتياجات الاقتصاد المصري المتنامي، وأن التعاون بين البلدين في هذا المجال قد تجاوز مرحلة الإنشاء إلى بناء قدرات فنية وبشرية مصرية قادرة على تشغيل التكنولوجيا النووية بأعلى مستويات الكفاءة.
وقد أوضح الرئيس الروسي بوتين للرئيس السيسي أن المشروع النووي لم يعد مجرد خطة هندسية، بل أصبح مشروع دولة، ورمزًا لتحالف استراتيجي ممتد.
ومع تخطي مراسم اليوم طابع الاحتفال، كشف الحدث عن تقدم جوهري في أكبر مشروع للطاقة النظيفة في تاريخ مصر، والذي يستند إلى أربعة مفاعلات من الجيل الثالث المطوّر “VVER-1200”، القادرة على إنتاج إجمالي يصل إلى 4800 ميغاوات من الكهرباء.
وتؤكد التقديرات الرسمية أن المحطة ستضخ نحو 35 مليار كيلووات/ساعة سنويًا فور اكتمال تشغيل الوحدات الأربع بحلول عام 2028 أو 2029، وهي كمية كفيلة بإعادة رسم خريطة الطاقة في مصر بشكل جذري.
ويمثل البرنامج النووي نقطة تحول رئيسية في مسار تقليل الاعتماد على الغاز الطبيعي، الذي يشكل اليوم العمود الفقري لتوليد الكهرباء في مصر، ومع ارتفاع أسعار الغاز عالميًا وتقلبات سوق الطاقة، أصبح من الضروري البحث عن مصادر مستقرة ومنخفضة التكلفة على المدى الطويل، وهنا يأتي الدور المحوري للطاقة النووية، التي توفر إنتاجًا كثيفًا وثابتًا على مدار 60 عامًا، دون أن تتأثر بأي أزمات جيوسياسية أو تقلبات اقتصادية.
كيف ستؤثر محطة الضبعة على استهلاك الغاز الطبيعي وإنتاجيته في مصر ؟
وتشير البيانات إلى أن دخول محطة الضبعة على الشبكة سيخفض استهلاك الغاز الطبيعي بمحطات الكهرباء بنحو 7 مليارات متر مكعب سنويًا، ما يتيح للدولة إعادة توجيه جزء من هذا الغاز نحو التصدير، وتخصيص جزء آخر لتوسيع الصناعات كثيفة الطاقة، مثل الأسمدة والبتروكيماويات والصناعات الثقيلة، وهو ما يعني أن تأثير المشروع ليس طاقيًا فقط، بل اقتصاديًا واستثماريًا أيضًا، بما يعزز الإيرادات ويقلل الضغط على الميزانية العامة.
وتكتسب الطاقة النووية ميزة إضافية باعتبارها مصدرًا منخفض الانبعاثات، ما يجعلها جزءًا أصيلًا من استراتيجية مصر لمواجهة تحديات المناخ وتقليل الانبعاثات الكربونية، ويُعد المشروع رافدًا مهمًا لقدرة مصر على تحقيق التوازن بين احتياجات التنمية السريعة ومتطلبات حماية البيئة، خاصة في ظل التزاماتها الدولية وخططها للتحول إلى الطاقة النظيفة.
كما يُسهم المشروع في بناء قاعدة علمية متقدمة داخل مصر؛ إذ أشار بوتين إلى أن أكثر من 100 طالب مصري يدرسون بالفعل في الجامعات الروسية المتخصصة بالطاقة النووية، إلى جانب مشاركة آلاف المهندسين والفنيين المصريين في أعمال البناء، بما يزيد من نسب التصنيع المحلي ويُطوّر مهارات فنية جديدة، وقد تجاوزت نسبة الأعمال المنفذة داخل مصر 55%، في مؤشر قوي على توجه الدولة نحو توطين التكنولوجيا بدلًا من الاعتماد الكامل على الخبراء الأجانب.
وعلى المستوى المحلي، يعزز مشروع الضبعة أمن الطاقة كهدف استراتيجي للدولة المصرية، فامتلاك مصدر كهرباء ضخم وثابت مثل الطاقة النووية يُقلل يعزز من إمكانية الشبكة الصمود أمام أزمات الطاقة العالمية ويمنح الحكومة قدرة أكبر على ضبط أسعار الكهرباء للمستهلكين دون الاضطرار لرفعها بشكل يرهق المواطنين أو القطاعات الصناعية، كما يضمن المشروع تلبية الطلب المتزايد على الكهرباء، خاصة مع توسع المدن الجديدة والمناطق الصناعية ومشروعات الهيدروجين الأخضر والتحلية.
ويوفر المشروع دعامة قوية لطموح مصر في أن تصبح مركزًا إقليميًا للطاقة، ليس فقط عبر الغاز والربط الكهربائي، بل أيضًا عبر امتلاك قدرات نووية سلمية حديثة، تمهد لفرص جديدة في البحث العلمي والصناعات التكنولوجية المختلفة، كما أن امتلاك بنية نووية متقدمة سيُمكّن مصر مستقبلًا من الدخول في مشاريع جديدة، مثل تطوير مفاعلات صغيرة ومتوسطة الحجم، أو المساهمة في تكنولوجيات تحلية المياه، أو حتى تصدير الخبرات النووية للدول الصديقة.
ومع اقتراب الضبعة من بدء التشغيل الفعلي خلال السنوات القليلة المقبلة، تبدو مصر على أعتاب تحول استراتيجي سيغير خريطة الطاقة في البلاد لستة عقود مقبلة، فالمشروع لا يهدف فقط لتوفير الكهرباء، بل لبناء منظومة طاقة مستقرة، متنوعة، وأكثر قدرة على مواجهة المستقبل، بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الغاز، وبما يعزز استقلال القرار الطاقي لمصر ويدعم مسارها التنموي.
وبصفة عامة تمثل مشاريع مصر النووية ركنًا أساسيًا في استراتيجية البلاد لتحقيق الاستدامة في قطاع الطاقة، وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، وتعزيز أمن الطاقة الوطني، يُعتبر مشروع محطة الضبعة النووية على رأس هذه المشروعات والذي كان قد بدأ العمل على إنشاؤه عام 2017، وتُعد هذه المحطة هى الأكبر في أفريقيا ويهدف من خلالها إنتاج نحو 4800 ميجاواط من الكهرباء باستثمارات مشتركة مع روسيا، ويُتوقع أن توفر حوالي 35 مليار كيلوواط ساعة سنويًا، مما يسهم في تلبية نحو 12% من احتياجات مصر الكهربائية بحلول 2030.










0 تعليق