لم يكن عمر علي محمود طه (1901- 1949 م)، أحد أبرز وجوه مدرسة أبولو الرومانسية، كافيًا لبناء مسيرة شعرية تمتد عقودًا طويلة، لكنه كان كافيًا لصنع أسطورة أدبية خالدة.
رحل طه قبل أن يُكمل الخمسين، لكنه ترك من الإرث الشعري ما جعل اسمه يتصدر تاريخ الشعر العربي الحديث، كواحد من الشعراء الذين جمعوا بين الحس الرومانسي الشفاف والخيال الخلّاق والرؤية الوجودية العميقة.
ولد علي محمود طه في مدينة المنصورة عام 1901، في بيئة عادية لم تمهّد لطفلها طريق الشعر، لكن موهبته ظهرت مبكرًا.
كان يميل للعزلة والتأمل، ويجد في الطبيعة فضاءً للهرب من صخب العالم، وهي السمة التي ستنعكس لاحقًا في معظم قصائده، وعلى الرغم من عمله الأساسي كمهندس معماري، فإن الشعر كان عالمه الأول، المكان الذي صاغ فيه ذاته الحقيقية.

مع انضمامه إلى مدرسة أبولو التي أسسها أحمد زكي أبو شادي، وجد طه البيئة الفكرية والنفسية المناسبة لصوته الشعري، كانت المدرسة ثورة على التقليد، وتمردًا على القوالب الجامدة، وفتحًا لأبواب الرومانسية على مصراعيها، وهناك برز نجم "الملاح التائه"، وهو اللقب الذي ارتبط بواحدة من أشهر دواوينه وأكثرها تأثيرًا في جيل كامل من القرّاء والشعراء.
في هذا الديوان رسم طه صورة الشاعر الذي يتجول في كواكب الخيال، ويُبحر في بحار العاطفة، ويبحث عن المطلق والجمال والحب بمعناه الوجودي.
لم تكن رومانسية علي محمود طه رومانسية سطحية أو هروبًا من الواقع، بل كانت تصورًا إنسانيًا يعبر عن شغف بالحياة وشعور متواصل بالغربة.
كتب عن الحب كقضية كونية، وعن المرأة كروح لا كجسد، وعن الحزن كطاقة خلاقة لا كاستسلام.
وكانت لغته الشعرية تمتاز بموسيقى شفافة وصور مشبعة بالألوان والضوء، كأنه يرسم القصائد قبل أن يكتبها.
وفي مقابل هذا الجانب الرقيق، كان لطه موقف صريح من القضايا الوطنية الكبرى، فرغم طبيعته الحالمة، كتب قصائد مؤثرة عن الحرب العالمية الثانية، ووقف إلى جوار قضايا التحرر الوطني، وعبّر عن غضبه من الظلم والاستعمار بكلمات تهزّ الوجدان، وهكذا جمع بين شاعرية رقيقة وحس سياسي يقظ، ليؤكد أن الرومانسية ليست انسحابًا من العالم، بل رؤية أخرى له.
وفي سنواته الأخيرة، عاش علي محمود طه صراعًا صامتًا مع المرض. ظلّ يكتب ويقاوم، وكأن الشعر هو الوسيلة الوحيدة للتشبث بالحياة. رحل عام 1949 عن عمر لم يتجاوز 48 عامًا، لكن موته المبكر لم يُنهِ حضوره، بل رسّخ مكانته كشاعر عاش قليلًا لكنه أثّر كثيرًا.
















0 تعليق