فى مبادرة فنية مجتمعية، استطاع مشروع «نواة»، الذى انطلق منذ عام ٢٠١٥، بالتعاون بين وزارة الشباب والرياضة ومؤسسة «اتجاه» للتنمية المجتمعية، ومؤسسة «زاد للفنون»، وبدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان، أن يرسخ حضوره كإحدى أهم تجارب التوعية والتغيير وبناء الوعى داخل المجتمعات المحلية فى المحافظات المصرية، اعتمادًا على الفن.
ومنذ انطلاقته، نجح المشروع فى أن يخلق مساحات جديدة للشباب، الذين وصل عددهم إلى أكثر من ٣٥٠٠ شاب وشابة، ليقدّموا من خلالها تجارب فنية صادقة نابعة من واقعهم، تناقش قضايا مجتمعية رئيسية، على رأسها قضايا الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة وختان الإناث وزواج الأطفال، مع الوصول إلى المجتمعات المحلية فى ١٧ محافظة، ما حوّل المشروع إلى منصة حقيقية للتعبير عن القضايا المجتمعية بشكل فنى يحترم عقل ووجدان الجمهور.
البرنامج التوعوى انطلق فى 2015.. ويشمل 17 فريقًا شبابيًا فى 17 محافظة
قالت سعاد السيد، مسئول برنامج الشباب بصندوق الأمم المتحدة للسكان، إن مشروع «نواة»، الذى بدأ فى عام ٢٠١٥، وتضمن تنفيذ برامج توعية موسعة فى محافظات سوهاج وأسيوط والشرقية، ركز منذ بدايته على إيجاد أساليب جديدة لطرح قضايا الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة وزواج الأطفال وختان الإناث بطريقة جذابة وقريبة من الشباب.
وأوضحت أن أولى المبادرات جاءت من الشباب أنفسهم، عبر عرض مسرحى بسيط عن زواج الأطفال، ترك أثرًا ملهمًا، ما دفع الصندوق فى عام ٢٠١٧ للاستعانة بخبراء الفنون وفريق «زاد للفنون» لوضع منهجية تستهدف دمج الفن فى التوعية، مع التركيز على المسرح، كوسيلة تعبّر بصدق عن الرسائل الصعبة.
وأشارت إلى أن المشروع توسّع بعد ذلك ليشمل ١٧ محافظة و١٧ فريقًا شبابيًا، بعد أن تبلورت فكرة «نواة للتغيير»، انطلاقًا من القناعة بأن المشكلات المجتمعية تحتاج إلى سنوات طويلة للحل، لكن زرع «النواة» داخل كل مجتمع هو البداية.
وذكرت أن المشروع اعتمد على اختيار شباب متحمسين متطوعين، لا فنانين محترفين، لتبدأ مرحلة «الاستكشاف»، التى تكشف عن مواهب فى الكتابة والتمثيل والرقص وغيرها، ليتم توظيفها فى صياغة عروض مسرحية مستلهمة من قصص واقعية.
وقالت: «يتولى فريق (زاد للفنون) الجانب الفنى، فيما تقدم مؤسسة (اتجاه) ووزارة الشباب والرياضة التدريب المعلوماتى، داخل (أندية السكان) المنتشرة فى ٤٣١ مركز شباب».
وبينت أن التدريب لا يقتصر على الفنون، بل يشمل مهارات القيادة والعمل الجماعى وروح المبادرة والتنظيم، مع توسيع مدارك الشباب من خلال ترشيح كتب ومسرحيات لبناء وعى أعمق.
وأضافت: «منذ عام ٢٠١٩، انطلقت مبادرة (الشمندورة)، لإنتاج أغان بسيطة للتوعية بقضايا الختان وزواج الأطفال، حيث تدرّب المشاركون على أساسيات الموسيقى، وأنتجوا ٨ أغنيات فى البداية وصولًا إلى ٣٥ أغنية من تأليفهم وألحانهم، تُستخدم فى جلسات مجتمعية تشاركية، وتجعل الجمهور جزءًا من الرسالة».
واختتمت المسئولة الأممية حديثها بالقول: «إن المشروع يزرع (نواة تغيير) فى كل بيت وكل مجتمع، والفن الذى يقدمه الشباب- رغم بداياته المتواضعة- يتحول بالتدريب إلى عمل مكتمل يليق بالجمهور، لأن من حق الناس أن ترى فنًا جميلًا يحمل رسالة حقيقية».
منصة للتعبير عن القضايا المجتمعية بشكل فنى يحترم عقل ووجدان الجمهور
رأت الدكتورة إيمان المأمون، نائب برنامج أندية السكان بمؤسسة «اتجاه»، أن مبادرة «نواة» باتت اليوم واحدة من أهم التجارب الفنية المجتمعية على مستوى المحافظات، حيث تعمل فى إطار شراكة ممتدة بين المؤسسة ووزارة الشباب والرياضة، وبدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالتعاون مع الشريك الفنى «زاد للفنون».
وأشارت إلى أن المبادرة، التى انطلقت عام ٢٠١٥، استطاعت خلال سنوات قليلة أن تحوّل الفن إلى مساحة مفتوحة للشباب داخل مجتمعاتهم، وتقدّم منصة حقيقية للتعبير عن القضايا المجتمعية بشكل فنى يحترم عقل ووجدان الجمهور.
ونوّهت بأن المبادرة تستهدف بدرجة أساسية الشباب المتطوعين، من سن ١٨ إلى ٣٥ سنة، ممن يمتلكون شغفًا بالفن، ورغبة فى إحداث تغيير داخل مجتمعاتهم.
ولفتت إلى أن هؤلاء المتطوعين يتم اختيارهم عبر مراكز الشباب أو من خلال استمارات الترشح السنوية، ليلتحقوا بعدها بسلسلة تدريبات تشمل الكتابة، والتمثيل، والإخراج، والغناء، والعمل الجماعى، ليصبحوا قادرين على إنتاج عروض حقيقية تعكس واقعهم، مشيرة إلى أن عدد المشاركين فى «نواة»- بين أعضاء قدامى وجدد فاعلين أو فى إجازة- وصل إلى أكثر من ٣٥٠٠ شاب وشابة.
وقالت: «المجتمع المحلى يُعد جزءًا أساسيًا من نجاح المبادرة؛ فالعروض تُقدّم داخل القرى والمدارس ومراكز الشباب، ما يجعل رسائلها أكثر صدقًا وتأثيرًا لأن من يحكى من أبناء البلد، كما لعبت (نواة) دورًا محوريًا فى إدخال الثقافة المسرحية إلى مناطق لم تعرف المسرح من قبل، ليس عبر عروض جاهزة، بل من خلال بناء فرق محلية قادرة على إنتاج أعمالها بمهاراتها وأدواتها».
وتابعت: «(نواة) أصبحت خلال سنوات قليلة حركة فنية مجتمعية، تُعيد الفن إلى الشارع، وتمنح الشباب مساحة حقيقية للتعبير، وتحوّل القرى والمجتمعات المحلية إلى فضاءات للفن والوعى».
سيدة تتراجع عن ختان طفلتها بعد مشاهدة أحد عروض المشروع
أكد محمد السيد، الشهير بـ«عسلية»، أنه لم يكن يخطر بباله يومًا أن يجد نفسه على خشبة المسرح، بعدما كان شغفه الأكبر وعالمه الوحيد هو كرة القدم، حتى اقترحت عليه والدته اقتراحًا أسهم فى تغيير حياته.
وأضاف «السيد»: «فى ٢٠١٧، حين كنت فى الـ١٣ من عمرى، كانت كرة القدم هى عالمى الوحيد وشغفى الأول، حتى اقترحت علىّ والدتى، التى كانت تشارك فى ورشة حكى، الانضمام إلى الفريق المشارك فى العرض الختامى».
وواصل: «رفضت تمامًا فى البداية، ولم أكن أتصور أننى قادر على التمثيل أو الوقوف أمام جمهور، لكننى قررت فى النهاية خوض التجربة دون توقعات. عند دخولى الفريق، كانت المفاجأة الكبرى، بعد أن وجدت نفسى وسط ٤٩ سيدة وفتاة، وكنت وقتها شابًا خجولًا يهاب التعامل مع الفتيات. مع الوقت، اندمجت داخل المجموعة وتعرّفت إليهن، حتى أصبحت جزءًا من هذا الكيان».
وأكمل: «الصدمة الحقيقية بالنسبة لى كانت أن العرض مبنى على قصصنا نحن، وليس نصًا جاهزًا. كنا نعمل على حكايات واقعية وموضوعات عميقة، مثل العنف بكل أشكاله، وختان الإناث، وزواج الأطفال. وبسبب سنى الصغيرة، كان المخرج محمد على يحرص على شرح هذه القضايا لىّ بدقة حتى أؤدى دورى بصدق وفهم».
وأشار إلى اللحظة التى أدرك فيها قيمة ما يقدمونه، قائلًا: «هناك رأيت التأثير الحقيقى للمسرح. لا أنسى موقف سيدة كانت على وشك إجراء عملية ختان لابنتها، لكنها تراجعت تمامًا بعد مشاهدتها العرض وفهمها مخاطره. هذا الموقف غيّر شيئًا بداخلى، وجعلنى أدرك أننا لا نقدّم فنًا فقط، بل نحمى حياة ونغيّر وعيًا».
وأضاف «عسلية»: «من هنا شعرت بالمسئولية، وبأننى أحمل رسالة أكبر من مجرد أداء مسرحى. حاولت لفترة أن أوازن بين كرة القدم والمسرح، لكننى لم أستطع. وحين اضطررت للاختيار اخترت المسرح، لأننى وجدت نفسى فيه، ووجدت أثرًا حقيقيًا لا يمكن التخلى عنه».
واختتم بقوله: «اليوم أدرك تمامًا أن المسرح لم يكن صدفة فى حياتى، بل كان بوابة لاكتشاف ذاتى. لقد منحنى معنى جديدًا للحياة، وعلّمنى أن الفن يمكن أن يكون قوة تغيير حقيقية تتجاوز حدود الخشبة».
ورش مكثفة لتطوير مهارات المتطوعين.. و200 شخص متوسط حضور كل فعالية
كشف الفنان محمد على، مدير شركة «زاد للفنون» المسئول عن تنفيذ الجانب الفنى بالمشروع، عن أن عملية اختيار الأعمال المسرحية التى تُقدَّم فى القرى والمناطق المختلفة داخل أقاليم مصر تبدأ من خلال ورش تدريبية مكثفة، تتراوح مدتها بين ١٠ و١٥ يومًا، ويشارك بها متطوعون وشباب فنانون من مختلف المحافظات.
وأوضح «على» أن تلك الورش تعتمد على منهجية محددة، تم تطويرها خلال السنوات السابقة، عقب سلسلة طويلة من التجارب على الأرض داخل المشروع، وتتكون هذه المنهجية من ثلاث مراحل رئيسية هى: الاستكشاف، والتدريب، والتطبيق.
وأضاف: «المرحلة الأولى تبدأ بالعمل المباشر مع المستهدفين من الشباب المتطوعين، الذين يمتلكون الشغف والرغبة فى تطوير مهاراتهم الفنية، ويتم التركيز خلال هذه المرحلة على استكشاف قدراتهم وميولهم الفنية، سواء فى الكتابة أو الديكور أو التمثيل، مع منحهم مساحة للتجربة والاختبار».
وواصل: «أما المرحلة الثانية فتهدف إلى مدّ المشاركين بالأدوات المعرفية الأساسية، ويحصل الشباب فيها على أساسيات الفن الذى يختار كل منهم ممارسته، وبالتزامن مع التدريب العملى، يتم تقسيم المشاركين إلى مجموعات عمل متخصصة فى الكتابة والديكور والموسيقى وغيرها، ويخضعون لمرحلة كتابة تمتد من ٥ إلى ٦ أيام للخروج بالنص المبدئى، ثم تتعاون مجموعات التصميم والموسيقى وغيرها لتطوير تصور للنص، تمهيدًا لمرحلة التطبيق».
وتابع: «فى مرحلة التطبيق يبدأ الشباب فى تنفيذ ما تعلموه، والعمل على تطوير النسخة الأولية للنص وتحويلها إلى عرض مسرحى يُنفذ على الأرض، ورغم أن الوقت المتاح محدود، إلا أن الشباب عادة ما يحققون إنجازًا مذهلًا، ربما يتفوق على ما يقدمه المسرح المحترف، وسر هذا الإنجاز يكمن فى الشغف والحب والرغبة فى الإنتاج، التى يشعر بها الشباب تجاه العمل الفنى، باعتباره جزءًا منهم».
وقال: «بعد ذلك تبدأ رحلة العروض داخل القرى، للوصول إلى الجمهور المستهدف بالتوعية، ونظرًا لأن المشاركين متطوعون فإن المشروع يعتمد على فكرة تعدد المؤدين للدور الواحد، لضمان استمرارية العرض ومشاركة أكبر عدد ممكن من الشباب». وعن أبرز التحديات التى تواجه المشروع، ذكر «على» أن الموارد المادية المخصصة للعروض عادة ما تكون محدودة، وأن وزارة الشباب والرياضة تشارك بتوفير أماكن العرض داخل مراكز الشباب، بينما يتولى الشباب تنظيم انتقالاتهم للقرى البعيدة.
وأشار إلى أن بعض الفتيات فى المحافظات يواجهن بعض الممانعة من أسرهن فى بداية المشاركة، لكن مع مرور الوقت يلحظ أولياء الأمور تطورًا ملحوظًا فى شخصية بناتهم وقدرتهن على التعبير، مما يمنحهن الثقة ويزيل العقبات تدريجيًا.
ولفت إلى أن المشروع يواجه أيضًا بعض الحساسية بسبب مناقشة قضايا اجتماعية مثل الختان والزواج المبكر، حيث يعترض البعض على طرح مثل هذه الموضوعات، لكن الفريق يدعم رؤيته الفنية بآراء علمية ودينية وقانونية دقيقة.
وضرب مثالًا بقضية الختان، قائلًا إن التحضير الجيد «مكّن الفريق من مواجهة الأصوات التى تتحدث باسم الدين أو التقاليد، مع تقديم معلومات واضحة للجمهور، ما سهّل لاحقًا تقبّل فتاوى الأزهر حول تجريم الختان».
واختتم حديثه بالقول: «متوسط حضور الفعاليات يتراوح بين ١٠٠ و٢٠٠ شخص فى كل فعالية، ما يسهم فى انتشار الوعى، وما حققه المشروع من نتائج ملموسة على الأرض هو نتاج شغف الشباب وإيمانهم الحقيقى بقيمة الفن، وقدرته على صناعة تغيير مجتمعى حقيقى».
تدريبات لتحويل المتطوعين «الهواة» إلى «محترفين»
كشفت المخرجة عبير على عن تفاصيل دورها فى مشروع «نواة»، بداية من تصميم مجموعة متكاملة من البرامج التدريبية الموجّهة للهواة الراغبين فى الانتقال بخبراتهم إلى طريق الاحتراف، مع اعتماد منهجية ترتكز على تحويل القضايا المجتمعية إلى نصوص وعروض مسرحية تعبّر عن الناس وتُحاكى واقعهم.
وأضافت أنها صمّمت مناهج متخصصة فى فنون الحكى، تجمع بين كتابة نص الحكى وأدائه، إلى جانب مناهج أخرى فى الكتابة المسرحية المرتبطة بالمسرح المجتمعى، إلى جانب إعداد برامج تدريبية فى الإخراج المسرحى وإدارة الفنون، تشمل إدارة وتكوين الفرقة المسرحية بوصفها أحد الأعمدة الأساسية للعمل الفنى الجماعى.
وواصلت: «وضعت كذلك برنامجًا تدريبيًا متقدّمًا مستندًا إلى منهج أوجستو بوال ومبادئ المسرح التفاعلى والمسرح الغامر، مع تطبيق تدريبات عملية تساعد المشاركين على إدراك كيفية توظيف هذه الأساليب فى التعبير عن قضايا مجتمعهم».
وأتمت: «درّبت المشاركين على هذه المناهج فى محافظات مختلفة سعيًا لتوسيع دائرة الأثر، وإتاحة فرص فنية جادة للشباب فى مناطق بعيدة عن المركز، بما يعزز دور المسرح كأداة للتعبير، والتغيير، وبناء الوعى المجتمعى».














0 تعليق