في الذكرى الـ123 لافتتاح المتحف المصري بالتحرير، يعود هذا الصرح العريق إلى الواجهة من جديد، ليس فقط كأقدم متحف أثري في الشرق الأوسط، بل كقلب حيّ يختزن تاريخ مصر وروحها.
وبينما يسطع المتحف المصري الكبير في الجيزة بتقنياته الحديثة ومساحاته الشاسعة، يبقى متحف التحرير علامة فارقة تحمل عبق الماضي وملامح البدايات الأولى لحفظ الآثار المصرية.
وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الهائل الذي يقدمه المتحف المصري الكبير، يستمر متحف التحرير في لعب دور لا يمكن الاستغناء عنه، بفضل تاريخه، ومقتنياته، ومكانته الرمزية في الوعي المصري والعالمي.
المساحة وحجم المجموعات الأثرية
يُعد المتحف المصري الكبير أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، بمساحة نصف مليون متر مربع تشمل أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل مختلف عصور تاريخ مصر القديم.
هذه المساحة لم تُبنَ فقط لاحتواء القطع، بل لتمكين عرضها بطريقة علمية شاملة تتسع لقطع ضخمة وهشّة في الوقت نفسه.
في المقابل، يمتد المتحف المصري بالتحرير علي مساحة 15 ألف متر مربع، ويضم 120 ألف قطعة أثرية، لكنه يظل المستودع الأكبر للذاكرة الأثرية المصرية منذ أكثر من قرن، بما يشمله من قطع تمثل العمود الفقري للتأريخ للآثار المصرية.
ورغم أن مساحته أقل من مساحة المتحف المصري الكبير، فإنه يقدم ثراءً تاريخيًا مكثفًا من خلال مجموعات متكاملة عُرض أغلبها لأول مرة داخل قاعاته.
منهجية العرض.. تكنولوجيا المستقبل مقابل كلاسيكية التحرير
يقدم المتحف المصري الكبير ثورة حقيقية في منهجية العرض، فبدل الاعتماد على التسلسل الزمني فقط، تُعرض القطع وفق ثلاثة محاور رئيسية: الحياة اليومية، السلطة الملكية، والمعتقدات الدينية.
كل محور يُروى عبر الزمن، ليخلق تجربة أكثر ترابطًا تُشعر الزائر وكأنه يعيش داخل قصة الحضارة نفسها.
ويعتمد المتحف على تقنيات الواقع الافتراضي، شاشات تفاعلية، مسارات ذكية، وتجارب رقمية موجّهة للكبار والأطفال على حد سواء.
أما المتحف المصري بالتحرير، فيتبع المنهج الكلاسيكي الذي يعتمد على التسلسل الزمني وتوزيع القطع وفق العصور، وهو منهج حافظ على قيمته الأكاديمية لعقود طويلة.
ورغم غياب التقنيات الحديثة، فإن هذا الأسلوب يمنح الباحثين والزائرين تجربة مباشرة مع قطع أصلية معروضة بشكل متتالٍ يتيح قراءة تطور الفن والأدوات والطقوس عبر الزمن.
كنوز توت عنخ آمون.. لأول مرة كاملة في المتحف المصري الكبير مقابل العرض التاريخي في التحرير
يُعد عرض مجموعة الملك توت عنخ آمون في المتحف المصري الكبير أكبر إنجاز أثري في العصر الحديث، إذ يتمكن الزائر لأول مرة منذ اكتشاف المقبرة عام 1922 من مشاهدة المجموعة كاملة، التي تتجاوز 5000 قطعة، بينها المقصورات الخشبية الضخمة والحلي وأدوات الحياة اليومية، وقد عُرض بالفعل ما يقارب 1800 قطعة بعد نقلها بعناية شديدة بإشراف خبراء مصريين ودوليين.
وفي المقابل، لعب المتحف المصري بالتحرير الدور التاريخي في تعريف العالم على كنوز الملك الذهبي، إذ ظل يحتفظ لعقود بأجزاء مهمة من المجموعة، وكان مقصدًا لهواة التاريخ منذ مطلع القرن الماضي، وعلي الرغم من انتقال القطع إلى "المتحف المصري الكبير"، سيظل دوره مرتبطًا بالذاكرة الأولى لاكتشاف المقبرة وما أحدثته من ثورة علمية.
المرافق والخدمات.. بين أحدث مراكز الترميم وبرامج الطفل وبين طابع المتحف التقليدي
يضم المتحف المصري الكبير مجموعة من المرافق الحديثة التي تجعله مؤسسة متكاملة تعتمد علي العرض التفاعلي، وليس مجرد قاعات عرض فقط.
ومن أبرز هذه المرافق، مركز الترميم بالمتحف، الذي يعد أحد أكبر مراكز الترميم في العالم، بالإضافة إلى متحف الطفل، قاعات سينمائية، مكتبة بحثية، ومناطق تعليمية مبتكرة، ومساحات للراحة.
أما متحف التحرير، فيحافظ على طابعه التقليدي، حيث يركز على عرض القطع داخل قاعات صممت بطريقة كلاسيكية مستقرة.
وعلي الرغم انة يضم مكتبة ومركز أبحاث، فإن دوره البحثي ظل محصورًا في الإطار التقليدي، وهو ما يجعله متحفًا تاريخيًا يقدم تجربة أصيلة بعيدة عن الطابع التفاعلي.
التصميم المعماري.. رؤية حديثة أمام معمار كلاسيكي عمره 123 عامًا
يقف المتحف المصري الكبير كتحفة معمارية حديثة، فقد وضع حجر اساسة في 2002 وتم الانتهاء منه في 2021 وتم افتتاحة رسميا في الاول من نوفمبر الجاري 2025، ويتميز تصميمة بواجهة زجاجية ضخمة تطل مباشرة على الأهرامات، وتصميم داخلي يعتمد على مساحات واسعة ومسارات مدروسة تجمع بين الضوء الطبيعي والمعروضات الأثرية، يعكس هذا التصميم رؤية مستقبلية تقدم الحضارة المصرية في قالب عالمي معاصر.
أما مبنى متحف التحرير التي تم بدأ العمل به في 1863 وتم افتتاحة رسميا 1902، فهو نموذج فريد من العمارة الكلاسيكية الحديثة متأثر بالعمارة اليونانية والكلاسيكية، ويحتوي على عناصر مستوحاة من المعابد المصرية القديمة، ولا يزال يحتفظ بقيمته التاريخية وجمالياته المستوحاة من المعابد المصرية القديمة.
فكل من التصميم المعماري للمتحفين يبرز عبقرية الهندسة المصرية علي مختلف العصور والازمنة، ويبرز الدقة في التصاميم رغم اختلاف التقنيات بين المتحفين الا ان كلاهما يتميز بتصاميمة الفريدة عن الأخر.
الموقع ودور كل متحف في الخريطة السياحية للقاهرة
يتكامل موقع المتحفين بطريقة لافتة، فالمتحف المصري الكبير يقع علي أعتاب الأهرامات، مما يجعله جزءًا من جولة الآثار الكبرى في الجيزة.
بينما يقع متحف التحرير في قلب العاصمة، وسط المعالم الثقافية الحديثة والمراكز السياسية والتجارية، ما يجعله محطة رئيسية للزائرين.
الجمهور المستهدف.. تجربة الزائر العادي والباحث والأكاديمي
يُصمم المتحف المصري الكبير ليخاطب الزائر العادي، الأسرة، الطفل، والباحث المتخصص في آن واحد، وذلك عبر تجارب تفاعلية ومحتوى علمي متعمق فكل الفئات تري متعتها الخاصة داخل المتحف.
أما متحف التحرير، فلا يزال الوجهة الأكاديمية الأولى لطلاب الآثار والباحثين، لما يوفره من بيئة عرض تقليدية تسمح بدراسة القطع دون مؤثرات تقنية.
أدوار لا تلغي بعضها.. كيف يكمّل المتحفان بعضهما في تقديم الحضارة المصرية؟
يتجلى التكامل بين المتحفين في توزيع الأدوار بذكاء، فالمتحف المصري الكبير يمثل بوابة المستقبل، فيما يمثل متحف التحرير ذاكرة الماضي.
المتحف المصري الكبير يعرض الرؤية الشاملة، والمتحف المصري بالتحرير يقدم التفاصيل الدقيقة، وبينهما تمتد رحلة حضارية واحدة تؤكد أن مصر اختارت أن تُقدم تاريخها للعالم بصوتين مختلفين يكمل أحدهما الآخر.







0 تعليق