الغبار يرتفع فجأة من قلب هضبة الأهرامات، ينسدل على الحجارة القديمة كما لو كان يحاول طمس الذاكرة نفسها. الشمس، المعلقة فوق الأفق كالشمعة المائلة، تُلقي بظلال طويلة على الأطلال، فتبدو الحجارة وكأنها تتحرك، وكأنها تتنفس. وفي لحظة صمت غريبة، تظهر ملامح عمالقة ضخمة. لا تتحرك، ولا تصدر صوتًا، لكن وجودها ثقيل للغاية، يربك الحواس ويجعل القلب يترنح بين الخوف والانبهار.
في قلب هذه المشاهد المهيبة، تنطلق أحداث رواية واحة الخاوي، حيث تتحول الواحة القديمة إلى مسرح لصراعات الإنسان مع ذاته ومع التاريخ، وتصبح كل خطوة بين الأطلال بوابة لاكتشاف أسرار النفس والمجتمع."
الأشجار الميتة تتحرك ببطء تحت نسيم الريح، والهواء يحمل أصوات الماضي: ضحكات، صراخ، همسات لا يفهمها إلا من يستمع بعينيه وروحه معًا. كل شيء في المكان يصرخ بالحكاية التي لم تُروَ بعد، كل ركن في الواحة يهمس بالأسئلة الكبرى: من نحن؟ ماذا تبقى من الإنسان إذا طغت الأسطورة على الواقع؟
ببراعة متقنة، يوجه الدكتور إيهاب بديوي القارئ من عبق الأطلال وغموض الواحة مباشرة إلى أعماق شخصية حسين، ويفتح نافذة على نفسيته، حيث تتشابك الأسئلة الكبرى مع المخاوف والأحلام المكسورة، في رحلة تكشف جوهر البطل ببطء وعمق، لنشهد هشاشته، خيباته، وصراعه مع الحياة التي تفرض عليه قيودها الثقيلة. حيث تبدأ رحلة اكتشاف الذات، ويتكشف صراع الإنسان مع الماضي والحاضر على نحو مؤثر ودقيق.
حسين رجل أربعيني، موظف عادي في إحدى شركات القطاع الخاص، يعيش في مدينة منهكة حيث تتنفس الرتابة والظلم في كل زاوية. كان يعتقد أن حياته بسيطة، محدودة بالروتين اليومي، وأنه يعرف كل ما يحتاج معرفته عن العالم. لكن الأقصر، بهضابها القديمة وأطلالها الصامتة، لم تدعه يعيش كما يشاء.
رحلته، التي كان يفترض أن تكون مجرد مهمة عمل روتينية، تتحول إلى مغامرة وجودية. الذاكرة تتسلل إليه بلا إذن: يرى والده في زي ملك فرعوني، يرى نفسه طفلًا يلهو بين أطلال الحلم الضائع، ويسمع أصوات حكايات قديمة لم تُكتب بعد.
كل حجر، كل تمثال، وكل ظل من ضوء الشمس على الجدران يروي قصة عن القوة والفساد والصراع البشري. حسين لا يكتشف أسرار الحضارة فقط، بل يكتشف هشاشته: خوفه من الفشل، خيبته من الواقع، وصراعه مع رغباته التي تحطمت تحت وطأة الحياة.
هو يشعر بثقل التاريخ على كتفيه، لكنه يعرف أيضًا أن هذا التاريخ لا يرحم أحدًا. كل خطوة يخطوها على الأرض الرملية تجعله أقرب إلى الحقيقة، تلك الحقيقة المزعجة: أننا قد نكون مجرد أدوات في لعبة أكبر، وأن العدالة والحرية ليست سوى وهم نختبئ خلفه لنشعر بالأمان.
وببراعة متأنية، يقودنا الدكتور إيهاب بديوي من أعماق صراعات حسين إلى انعكاسها الحي في أمل، حيث تتجلى العلاقة الإنسانية بكل ما تحمله من حنين وفقد وهشاشة.
ومن خضم الصراعات الداخلية لحسين، ينسج بديوي بمهارة جسرًا إلى أمل، لتكشف العلاقة بينهما عن أبعاد جديدة من الانكسار والصدق الإنساني، دون أن يغيب حس الأدب الرقيق عن السرد.
أمل، زوجة حسين، ليست مجرد شخصية ثانوية. هي مرآة حادة تعكس كل ما فقده حسين، كل خيباته وكل أحلامه المحطمة. كانت شريكة في الحلم، لكنها أصبحت صوت الإحباط الصامت، صرخة بين السطور، تلوح بالإحباط لكل ما حولها، وكأنها تصرخ للحياة نفسها.
علاقتها بحسين تكشف تصدع العلاقات العاطفية تحت ضغط الواقع الاجتماعي، حيث تتحول الأحلام المشتركة إلى رماد، والحب يصبح عبئًا لا يحتمل. كل مرة ينظر إليها، يشعر باللوم والخوف، ويعرف أن العلاقة بينهما لم تعد كما كانت. هي تمثل الانهيار الشخصي والجمعي، انعكاسًا لما يحدث للإنسان العربي حين يتصارع مع التاريخ والخيبة.
حسين يسير وسط الأطلال، وتلاحقه أسئلة كبرى لا تنتهي، عن الحرية والعدالة والهوية
هل نحن أحرار حقًا، أم مجرد رهائن لتاريخنا وأخطائنا؟
هل يمكن أن تتحقق العدالة في عالم يثقل التاريخ كاهل الحاضر؟
ماذا تعني الهوية إذا لم تحمي كرامة الإنسان؟
هذه الأسئلة ترافقه في كل لحظة، في كل نفس، في كل خطوة على الرمال القديمة. العمالقة، الأطلال، الريح، كل شيء يتحول إلى رمز، إلى مرآة تكشف صراعه الداخلي. بين كل مشهد وآخر، ينبثق السؤال الأكبر: ماذا تبقى من الإنسانية إذا كان الماضي يطغى على الحاضر، ويظل الإنسان حبيس التاريخ؟
لغة الرواية تموج بين الحلم والواقع، فالواقعية السحرية هنا ليست مجرد أسلوب، بل أداة لاكتشاف ما لا يُقال صراحة. كل مشهد، كل انعكاس للضباب، كل حركة للعمالقة، يجعل القارئ شريكًا في إعادة تركيب العالم. الواقع يتداخل مع الحلم، والرمز يتنفس داخل الحدث، واللغة الشعرية تمنح كل لحظة نكهتها الخاصة، تجعل القارئ يلمس كل التفاصيل: الغبار بين الأصابع، صوت الريح بين الحجارة، حرارة الشمس على الجلد.
الرواية ليست مجرد رحلة رجل يبحث عن معنى، بل مرآة المجتمع بين الماضي والحاضر،انعكاس لمجتمع تائه بين أمجاد الماضي وأشباح الحاضر. هي تجربة لا تُقرأ فقط، بل تُستشعر. تأخذ القارئ إلى قلب الصراع بين الفرد والمجتمع، بين التاريخ والحلم، بين الخيبة والامتلاء بالمعنى. كل شخصية، كل مشهد، كل حجر، كل ظل، يصبح جزءًا من قصة أكبر عن الإنسان العربي وحلمه الضائع.
هذه الرواية لكل من يبحث عن أدب يتجاوز السرد التقليدي ويغوص في أسئلة الهوية والوجود.
لكل قارئ يريد أن يعيش تجربة تمزج جماليات الأدب الحديث بأصداء الأسطورة القديمة.
لكل من أنهكته الأسئلة وأرهقته الإجابات الجاهزة، ويبحث عن تجربة تأملية عميقة.
"واحة الخاوي" للأديب المبدع دكتور إيهاب بديوي ليست مجرد رواية، بل حالة فكرية وشعورية نادرة. تجربة تتطلب أن يقف القارئ، يستنشق تفاصيلها، يعيش أحداثها، يتأمل رموزها… لتصبح كل صفحة بوابة لعالم جديد، حيث كل شيء ممكن، وكل شيء مشكوك فيه، والغموض دائمًا يرافق الرحلة.













0 تعليق